تعاقبت الدول على حكم إفريقية في الفترة الوسيطة، بدأت مع فترة الولاة ثم الدولة الأغلبية فالدولة الفاطمية وتلتها الدولة الزّيرية لتأتي فترة الإمارات المستقلّة التي نشأت إثر الهجرات الهلالية الكبرى. فقد تمكّن بنو جامع الهلاليّين من بعث دُويلة مزدهرة في قابس. بنوا قصر العروسين والجامع الكبير في منطقتي المنزل وجارة الحالية. هذا إلى جانب الأضرحة والزّوايا مثل ضريح سيدي أبي لبابة الأنصاري والقصبة. وقد أشار ابن خلدون إلى أنّ الأمير رشيد بن كامل هو من اختطّ قصر العروسين، أمّا التجاني فقد وصف لنا موقعه بأنّه بمقربة من الجامع الكبير والقصبة بجانب البطحاء التي تمثل حاليا سوق المنزل وهو المجال الذي تأسست به النواة المركزية للإمارة. وحافظت مدينة صفاقس طيلة فترة حكم الإمارات على استقرارها خلف الأسوار، كان حضورها بارزا إذ اتبع أميرها حمو بن مليل البرغواطي سياسة ثلاثية الاتّجاه، أعلنت ولاءها لبني حمّاد في القلعة ثم في بجاية، وكانت من أكبر المنافسين لبني زيري في المهدية، وحافظت على العلاقات السّلمية مع أمراء بني جامع في قابس. وهي أوّل مدينة ثارت على النّورمان وتبعتها بقيّة المدن ليقع دحرهم من كافة سواحل إفريقيّة. من نتائج هذه السياسة توسّعت الإمارة على مجالها البحري ومحيطها الداخلي بالتعاقد السلمي مع القبائل العربية المنتشرة في محيطها وهي الأثبج وعدي، ولكن المركز الحضري للإمارة لم يتجاوز أسوار المدينة. وتحمل نقيشة الجامع الكبير بصفاقس، التي تعود إلى فترة حكم أبي المنصور حمّو بن مليل البرغواطى، نصّا تخليديا مؤرّخا بسنة 478 ه/ 1085 – 1086 م مثبّتة في مستوى جبهة الباب الأخير من الواجهة الشرقيّة. وهو الذي ضرب العملة دلالة على السيادة والحركيّة الاقتصاديّة ومنها دينار بتاريخ 449 ه/1057 – 1058 م. وفي المهديّة تحوّل مجال بني زيري من مفهوم الدولة إلى مفهوم الإمارة لكنهم نجحوا في الحفاظ على شرعيتهم في الحكم، كما سيطروا على المجال خارج الأسوار فظلت مدينة المنستير تابعة لمجالهم، وتراوحت سيطرتهم على مدينة سوسة والقيروان في علاقة تنافس مع قبيلة رياح الهلالية. ولكن لم تتكوّن بالمنستير إمارة مستقلّة بل ظلت تابعة للزّيريين. والخاصية التي انفردت بها المدينة أنّها حظيت بصفة القداسة واشتهرت بالتعبّد ممّا جعلها في منأى عن خطر القبائل الهلاليّة. أمّا سوسة فكانت أوّل المدن التي ثارت على الصنهاجيّين بمعيّة مجلس شورى نظّم حياة المدينة، ثم عرفت نظام حكم مزدوج بين بني زيري وبني سرحان بن فادغ، الذين قاموا بتأسيس إمارة رياحيّة مستقلّة. وبفضل بني خراسان انتقلت تونس بُعيد حكمهم من وضعية المدينة إلى عاصمة إذ نجحت الأسرة إلى حد كبير في توفير الأمن وشيّدت المباني الضّخمة، نزح لها عدد بشري هام فتكون ربضا باب سويقة والجزيرة. وربطت علاقات ذات سيادة مع القوى المتوسّطية. أنشأت هذه الدويلة العديد من المباني أشهرها جامع القصر ومسجد المهراس. وعمارتها في جامع الزيتونة وقبّة سيدي بوخريسان حيث المقبرة المجاورة لحيّهم ومركز سلطتهم. ومن جهة أخرى حقّق أحد فروع قبيلة رياح وهم بنو زياد الذين استقروا في المعلّقة حضورا سياسيّا بارزا في العلاقات الداخليّة مع الإمارات ومع القوى الخارجيّة، بُني على اختيار استراتّيجي في معاداة بني خراسان والتّحالف مع أمراء بني جامع بحكم انتمائهم إلى نفس القبيلة، وبني زيري لتقارب المصالح بينهم، ونجحوا في جعل قرطاجنّة، خلال الفترة الوسيطة المتأخّرة، مدينة منّدمجة وليست منعزلة عن محيطها. وبفضلهم تحوّلت خرائبها القديمة إلى قرى عامرة شكّلت نواتات للتّوطين والسّكن، تشهد عليه قطع خزفيّة مؤرّخة بالقرن 6 ه/ 12 م. كما تأسّست في إقليم سطفورة في المنطقة الساحلية الشمالية لإفريقية إمارة ذات أصول عربيّة هي عائلة اللّخميين، حققت بدورها الاستقرار لبنزرت إلى فترة قدوم الموحّدين. تنسب هذه الإمارة إلى مؤسّسها أبي رجاء الورد اللّخمي الذي حسب اسمه ينتسب إلى قبيلة لخم اليمانيّة. وعلى غرار بقية الإمارات قامت باستغلال الفضاء المحصّن وهو القصبة وقامت ببناء القصيبة وجامع القصبة. ومثلّت هذه الوحدات المعماريّة النواة المركزيّة للإمارة. أمّا قفصة فعرفت تحت حكم بني الرّند أقصى توسّع لها امتد جنوبا من منطقة قسطيلية ونفزاوة وشمالا إقليم قمودة مستغلّة وحدة المجال الجغرافي والأصول العرقيّة والمذهبيّة وقدم التوطن في المنطقة. وتميز النمط المعماري بوجود القصور المتعدّدة الوظائف. وأمّا مركز الإمارة فنشأ حول القصبة والجامع الكبير في موقع يرجع إلى الفترة الرومانية. وفي الجهة الغربيّة تأسّست إمارة بني كلاع في شقّبناريّة، أي الكاف، وبسطت نفوذها على باجة والأربس التي خضعت لبني حمّاد حكّام بجاية. لكن ما أضعف هذه الدويلات هو القوى الخارجية المتوسطية التي ما فتئت قوّتها البحريّة تتنامي إلى أن انتهت باحتلال النورمان لسواحل إفريقية ثمّ السيطرة عليها من قِبل قبائل مصمودة القادمة من صحراء المغرب الأقصى معلنة نهاية فترة تاريخية وحضارية من تاريخ المغرب دامت أكثر من قرن من العصر الوسيط. يتبع