هم بنو زيري من صنهاجة البربريّة، أسّس دولتهم بلّكين بن زيري بن مناد بن منقوش، وحكموا إفريقيّة لأكثر من قرنين، من أوائل ق 4 ه / 10 م إلى أواسط ق 6 ه / 12 م في ظروف متشعّبة دفعت الهادي روجي إدريس – الذي خصّهم بأطروحة مدقّقة – إلى الحديث عن « إشكالية الملحمة الصنهاجية « (بالفرنسية، في حوليّات معهد الدراسات الشرقية، A.I.E.O، س 1959، ص 243 – 255)، تلك الملحمة التي بدأت من تاريخ تأسيس أشير سنة 324 ه / 935 م وانتهت بتاريخ سقوط آخر أمراء، بني حمّاد سنة 547 ه / 1152 م، مرورا بتأسيس مدينة القلعة – شمالي المسيلة – سنة 398 ه / 1007 م الذي يمثّل بداية بني حمّاد أكثر ممّا تمثّلها المعاهدة المبرمة بين حمّاد بن بلّكين والمعزّ بن باديس في نفس السنة، حسب نفس المؤرّخ . وقد حكم المعزّ أطول مدّة، قاربت نصف القرن، أي 47 سنة، منها ال 35 سنة الأولى، من 407 ه / 1016 م إلى 442 ه / 1050 م، الممثّلة لأوج السلطة إذ شهدت – من جملة عدّة إجراءات وإنجازات – القطيعة مع الفاطميين سنة 439 ه / 1047 م، ولكنّ الاثنتي عشرة الأخيرة، من 442 ه / 1050 م إلى 454 ه / 1062 م، شهدت الزحفة الهلاليّة بهزيمة حيدران سنة 443 ه / 1051 م وخراب القيروان سنة 449 ه / 1057 م واستقرار أواخر أمراء بني زيري في المهديّة، وأوّلهم تميم بن المعزّ الذي حكم نفس المدّة الطويلة مثل أبيه، أي 47 سنة، من 454 ه / 1062 م إلى 501 ه / 1107 م دون القضاء على الفوضى العارمة التي قسّمت البلاد إلى ما يشبه دول الطوائف بالأندلس، فكانت تونس عاصمة – وللمرّة الأولى في تاريخها – لبني خراسان، من بداية ولاية عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان سنة 450 ه / 1058 م إلى نهاية ولاية عبد الله بن عبد العزيز بن إسماعيل حوالي سنة 533 ه / 1138 م . وتواصل احتضار إمارة بني زيري في المهدية في عهد أمرائها الثلاثة الأخيرين، يحيى مدّة ثماني سنوات وابنه علي مدّة ستّ سنوات وابنه الحسن مدّة ثمان وعشرين سنة إلى أن طرده النرمان سنة 543 ه / 1148 م واحتلّوها مع مدن الساحل والجزر زهاء اثنتي عشرة سنة إلى قدوم عبد المؤمن بن علي أمير الموحّدين في سنة الأخماس 555 ه / 1160 م لإجلائهم وتوحيد الشمال الإفريقي وتولية عبد السلام الكومي على تونس قبيل عودته إلى مرّاكش. على أنّ ذلك الاحتضار الذي قدّرته الظروف لبني زيري في المهديّة تزامن مع الوهن الذي قدّرته ظروف مشابهة لبني حمّاد في بجاية فكانت نهايتاهما متزامنتين رغم انتظام ترتيب الوراثة فيهما قطعا لأطماع الأعمام وأبناء الأعمام مع تأهيل وليّ العهد بقيادة الجيش وولاية ناحية. ومع الحرص على قوّة الدولة كان هؤلاء وأولئك متسارعين إلى تلطيف بربريّتهم بالآداب والفنون التي شجّعوها وبالشهوات التي أشبعوها دون إفراط. ولكن، يا للمفارقة بين هؤلاء البربر الذين سرعان ما تعرّبوا وتنافسوا في إعلاء شأن الحضارة العربية على أراضيهم وبين أولئك العرب الهلاليين وأتباعهم الذين تسارعوا في هجمتهم لتقويض ما شيّده أسلافهم الفاتحون وأخلافهم الأغالبة! تلك مفارقة بين نمطين من أنماط العيش : الحضارة والبداوة، واللّيونة والخشونة، يوازيها صراع آخر بين الصنهاجيين المستقرّين الموالين للفاطميين بمصر وبين العرب الرحّل المنتمين إلى زناتة والموالين للأمويين بالأندلس . على أنّ ذلك الصراع بمظاهره العرقيّة والسياسية والعسكرية لم تكن له آثار عميقة في المجتمع وخاصة في حياة المدن رغم مبالغة الإخباريين في تعداد الحروب وتضخيم الخسائر، زيادة على الكوارث الطبيعية . وبناء على هذه الملاحظة يؤكّد الهادي روجي إدريس على أنّ « مأساة بني زيري كانت أوّلا وقبل كلّ شيء مأساة دينيّة .» يشير بذلك إلى دور العلماء في تأليب العامّة على الشيعة للاستقلال عن القاهرة، دون انتظار قرار المعزّ بصفته زعيم أهل السنّة . فلا شكّ أنّ أولئك العلماء قد بلغهم موقف إخوانهم الأندلسيين والعبّاسيين ومن ورائهم السلاجقة، ذلك الموقف المقاوم للتشيّع والمنتصر للسنّة، والمغلّب لمذهب الإمام مالك في الغرب الاسلامي . يتبع