لا نعرف على وجه الدقة هل القصبجي هو من قسا على نفسه عندما اكتفى بأن يجلس في الظل محتضنا عوده وحرمنا من إبداعاته اللحنية، أم أن قسوة أم كلثوم التي كانت دائما تنشد الكمال ولا تتنازل عنه هي التي أوصلت الأمر لما كان عليه بين العملاقين؟ سيظل هذا الأمر حبيس دفتر ذكريات «ثومة وقصب»، ولكن كل ما تبقى لنا من ذكرى رحيله هي صفحة ملونة تحمل أغنيته رق الحبيب "وإيه يفيد الزمن مع اللي عاش في الخيال، ولقيتني خايف على عمري ليروح منّي".! لقد ظل محمد القصبجي جالسا خلف أم كلثوم لمدة 43 عاما وحتى وفاته، وكان هو صاحب انطلاقتها الكبرى.. هكذا يعرف الموسيقار المصري الراحل محمد القصبجي عند الحديث عن علاقته بسيدة الغناء العربي أم كلثوم . رحيل غبقري في يوم 26 مارس 1966 رحل فجأة الموسيقار محمد القصبجي وترك هذا العالم في هدوء، بعد أن هجر التلحين لأكثر من عشرين عاما، وارتضى أن يكون فقط عازفا للعود وراء "الست" التي ظل حبيس عشقها الفني والإنساني لسنوات طويلة امتنع فيها عن الزواج بأي امرأة أخرى. وفي مساء 7 أفريل 1966، افتتح الستار وسط ترحيب الجمهور وهتافاته "عظمة ياست"، وظهرت أم كلثوم جالسة على كرسي وسط الفرقة الموسيقية، على غير عادتها، فقد كان كرسيها يتقدم الفرقة بسنتيمترات قليلة، ثم وقفت سومة لتشدو لأول مرة برائعة "الأطلال، ليظل هذا الكرسي فارغا في قلب الفرقة الموسيقية، وظل هذا الكرسي فارغا لسنوات حتى رحيل كوكب الشرق، فلا أحد يمكن أن يجلس في مكان احتله يوما ذلك الرجل نحيل الجسد دافئ القلب عاشق الموسيقى محمد القصبجي. وقبل أن نغوص في دفتر ذكريات سومة و"قصب"، كما كانت تناديه أم كلثوم، علينا أن نعترف أن محمد القصبجي لم يكن فقط ملحنا مهما، بل هو واحدا من السبعة الكبار في تاريخ موسيقانا المعاصرة كما وصفه فيكتور سحاب في كتابه "السبعة الكبار في الموسيقى العربية". وإذا لم تكن تعرف من هو محمد القصبجي يكفي أن تدرك أنه ملحن الأغنية العبقرية التي أبدعتها أسمهان منذ 77 عاما، ومازالت ساحرة "يا طيور"، والتي حول محمد القصبجي بها الأغنية العربية إلى لحن أوبرالي عالمي، ثم مزج إيقاع الفالس مع كلمات أنا قلبي دليلي للنجمة ليلى مراد. من منتهى العالمية إلى قلب الموسيقى الشرقية مع أم كلثوم في أغاني عديدة على رأسها رق الحبيب و ياصباح الخير ياللي معانا، هكذا كان القصبجي ينتقل من عالم إلى آخر بمنتهى السهولة والإبداع، فتستطيع أن نعتبره الجسر الذي ربط بين أفكار سيد درويش، وجيل محمد عبد الوهاب الذي تتلمذ وتعلم العود على يد محمد القصبجى عام 1923. من طرف واحد علاقة القصبجي وأم كلثوم كانت من طرف واحد كما يقول المقربون منهما، مؤكدين أن أم كلثوم كانت تقول إن علاقتها بالقصبجي علاقة عمل فقط ولا يمكن أن تتجاوز ذلك، لكن القصبجي كان يحبها في صمت ويغار عليها وترك التلحين، مفضلا أن يعمل عازفا للعود في فرقتها ليظل بجانبها وبالقرب منها حتى بعد زواجها. كان القصبجي المولود في 15 أبريل من العام 1892 بحي عابدين بقلب القاهرة هو صاحب انطلاقة كوكب الشرق الفنية، وبدأت علاقته بها عام 1923 حيث كانت تنشد قصائد في مدح الرسول، فأعجب بصوتها وقرر أن يكون ملحنا لها، وقدم لها خلال عام أغنية «قال حلف مايكلمنيش»، كما أسس لها أول «تخت شرقي» يصاحبها في حفلاتها ثم كانت الانطلاقة الكبرى بتلحينه لها أغنية رق الحبيب. وفي عام 1927 كون القصبجي فرقته الموسيقية التي ضمت أبرع العازفين، وقام بتلحين الفصل الأول من «أوبرا عايدة» الذي غنته أم كلثوم في فيلمها عايدة أوائل الأربعينات، ثم قام بتلحين أغنيات ياصباح الخير وما دام تحب. ظلت العلاقة على خير ما يرام بين القصبجي وأم كلثوم حتى شعر الموسيقار الكبير بتجاهل كوكب الشرق له ولألحانه، وتفضيلها لألحان رياض السنباطي ومحمد الموجي، وكان ذلك يسبب جرحا كبيرا له، إلا أنه لم يشكُ ولم يعلن تبرمه أو غضبه، بل نزل على رأي أم كلثوم ونصحها بالاستعانة بألحان السنباطي والموجي، مقررا الانسحاب من حياتها كملحن على أن يبقى عازفا في فرقتها لآخر يوم في عمره. رسائل عاشق طوال رحلته معها كان القصبجي يحب أم كلثوم بالفعل، ويغار عليها،فضحته خطاباته لها، فعندما سافرت للعلاج خارج مصر كان يكتب لها متلهفا عاشقا مشتاقا لسماع أخبار جيدة عن صحتها، وقائلا لها إنه يشعر بفراغ كبير في غيابها، ومعبرا عن مكنون صدره بكلمات لا تصدر إلا من محب وعاشق ولهان. الناقد والصحافي المصري طارق الشناوي ذكر في كتابه «أنا والعذاب وأم كلثوم» أن كوكب الشرق عندما قررت إعلان خبر زواجها من الموسيقار محمود الشريف نزل الخبر كالصاعقة على رأس عشاقها، فقد خرج الشاعر أحمد رامي من منزله بالبيجامة هائما على وجهه في الشوارع، وذهب إليها زكريا أحمد في منزلها وشتمها، أما القصبجي فقد اقتحم منزلها حاملا خلف ظهره مسدسا ليجبر الشريف على إنهاء علاقته بأم كلثوم، لكن سيدة الغناء العربي احتوت الأمر وقدرت مشاعر القصبجي. لقدأحب القصبجي الست كثيرا، وكان مثل "الراهب الذي يتعبّد في محراب محبوبته"، مخلصا لها، وغيورا عليها غيرة شديدة. لقد عاش القصبجي حياته دون زواج، وحال حبه لأم كلثوم دون بحثه عن امرأة تعوض له حرمان الحب، وقد ذكر طلال فيصل في كتابه عن "بليغ"، أن القصبجي قال للملحن الشاب ذات مرة قبل أيام من وفاته "واد يا بليغ.. الحب ده أوسخ حاجة في الدنيا وأجمل حاجة في الدنيا". وكتب مازن عميش، في "المغنى حياة الروح" أن القصبجي "هو التائه المعذب الذي أفنى حياته على تخوم أم كلثوم القلعة المحصنة، فكسرته وردته على أعقابه وأبقته في خدمتها طائعا منكسرا حتى رحل عن الدنيا". لكنّ أم كلثوم لم تتخل نهائيا عن القصبجي الذي بقي لسنوات عازفا للعود في فرقتها، ولم تستبدله بعد وفاته بعازف آخر، حيث بقيت تقدم حفلاتها لمدة 3 سنوات، دون عازف عود. سر الخلافات بينهما هذا النجاح الفني الهائل بين»ثومة وقصب» واكبه حب كبير من طرف القصبجي تحدث عنه معاصروه، ولكن لم تبادله ثومه هذا الحب، وظل قصب يلعب دورا كبيرا في حياة أم كلثوم الفنية، على الرغم من أن تلك العلاقة الإنسانية والفنية الرائعة لم تخلُ من بعض الخلافات منها: تعاون القصبجي مع أسمهان وليلى مراد أثار غيرة ثومة الفنية والتي تعودت أن تكون هي الصوت الذي يغني ألحانه، رغم أن أم كلثوم بدأت في منتصف الثلاثينات تتعاون مع الملحن الشاب حينها رياض السنباطي، أحد تلاميذ القصبجي. وجاء الخلاف الثاني بين ثومة وقصب بعد فيلم "عايدة" عام 1942، وقدمت فيه ثومة أوبرا "عايدة" من تلحين القصبجي والسنباطي، ولكن الفيلم فشل جماهيريا، وكان هذا سببا في ابتعاد كوكب الشرق عن ملحنها الأول في تلك الفترة حيت اعتبرته مسؤولا عن هذا الفشل السينمائي الذي لم تعتده ثومة، والتي كانت أفلامها تحقق نجاحا جماهيريا. ولقد ظل القصبجي رغم تجاهل أم كلثوم لحبه لها حريصا عليها، فقد ضحى بمستقبله كموسيقار له بصماته الواضحة في الموسيقى العربية، مفضلا البقاء بجوارها عازفا في فرقتها حتى توفي في 26 مارس 1966 عن عمر 74 عاما،ً تاركا وراءه أفضل الألحان وأروع تضحية يقدمها محب لمحبوبته رغم تفضيلها لآخرين عليه. وإذا أردنا أن نختزل حياة القصبجي، فسنجد أنها تبدأ وتنتهي عند شخص واحد، وهي كوكب الشرق أم كلثوم .