نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. ابن فضلان ( أحمد بن فضلان بن العباس) : ت بعد 310 ه / 922 م. من موالي القائد محمد بن سليمان الحنفي، المشارك في فتح مصر، ثمّ من موالي الخليفة العبّاسي المقتدر بالله. أوفده إلى ملك الصقالبة، على أطراف نهر الفولغا مع وفد استجابة لطلب رسولهم العون على الخزر وتعليمهم الشعائر لحداثة إسلامهم. انطلقت البعثة في 11 صفر 309 ه / 21 جوان 921 م من بغداد مارّة بهمذان والريّ ونيسابور ومرو وبخارى، ثمّ بنهر جيحون فبخوارزم حتّى إلى بلغار الفولغا، في 18 محرّم 310 ه / 12 ماي 922 م. ولم يعرف مسار العودة لضياع القسم الأخير من الرسالة. وهي بعنوان « رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة «. حقّقها سامي الدهّان، دمشق 1960. عنه : مقدّمة المحقّق ؛ الزركلي 1 / 195 – 196 ؛ كحّالة 1 / 220 ( باختصار عن الزركلي وتصحيف اسم المحقّق : ساعي! والصواب سامي). الرحلة : وضّح أحمد بن فضلان (ت بعد 310 ه / 922 م) سبب الرحلة بقوله: « لمّا وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر (بالله العبّاسي) يسأله فيه البعثة إليه ممّن يفقّهه في الدين ويعرّفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدا وينصب به منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصّن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب إلى ما سأل من ذلك « ( رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة سنة 309 ه / 921 م. – تح. سامي الدهان، المطبعة الهاشميّة، دمشق 1960). كان ابن فضلان على رأس وفد من أربعة أشخاص معهم رسول – أو سفير – ملك البلغار ومترجم يعرف لغة الأتراك عند المرور ببلادهم، ومعهم بعض الخدم. انطلقت البعثة من بغداد في 11 صفر 309 ه / 21 جوان 921 م نحو همذان والريّ ثمّ نيسابور. واخترقوا إقليم طبرستان متنكّرين تجنّبا للعلويين حتّى وصلوا إلى بخارى آمنين. هناك قضوا شهرا، وقابل ابن فضلان الوزير الجيهاني لدى حاكم خراسان في سبتمبر، ثمّ استأنفوا السفر عبر نهر جيحون إلى خوارزم فإلى جرجان لقضاء الشتاء من نوفمبر 921 م إلى فيفري 922 م في فترة تجمّد الأنهار. ومع بداية مارس واصل ابن فضلان المسيرة مع من وافق على المواصلة، بعد تخلّف عدد لقساوة الطقس وندرة الموارد، فعبروا بلاد ما وراء النهر وبحر آرال شرقا وبحر الخزر غربا ممّا يعرف اليوم بجمهوريّة كازاخستان، وحلّوا بمدينة البلغار بعد سبعين يوما. يقول ابن فضلان عن شعوب الترك الغزية البدو : « «لهم بيوت شعر، يحلّون ويرتحلون، وترى منهم الأبيات في كلّ مكان، ومثلها في مكان آخر، على عمل البادية وتنقّلهم، وإذ هم في شقاء، وهم مع ذلك كالحمير الضالة لا يدينون لله بدين، ولا يرجعون إلى عقل، ولا يعبدون شيئاً، بل يسمّون كبراءهم أرباباً… وأمرهم شورى بينهم، غير أنّهم متى اتّفقوا على شيء وعزموا عليه جاء أرذلهم وأخسّهم فنقض ما قد أجمعوا عليه… وسمعتهم يقولون : لا إله إِلاَّ الله محمّد رسول الله تقرّبا بهذا القول إلى من يجتاز بهم من المسلمين». ويضيف : «أمّا رسوم تزوّجهم فتقوم على أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه، ابنته أو أخته بثوب خوارزميّ مهرا، أو مقابل جمال أو دواب، فإذا وافقه حملها إليه. وإذا مات الرجل وله زوجة وأولاد، تزوّج الأكبر من أولاده بامرأته إذا لم تكن أمّه». ويذكر أنّ «أمر اللواط عندهم عظيم جدّا، يقتلون من يمارسه». وإذا مرض الرجل منهم ضربوا له خيمة يبقى فيها منفرداً إلى أن يموت، وإذا كان فقيراً رموه في الصحراء وتركوه؛ وإذا مات حفروا له حفرة كبيرة كهيئة البيت، وألبسوه ثيابه، وتركوا له ماله وأشياءه، وإناء نبيذ، وأجلسوه في البيت، وجعلوا له قبّة. كما لاحظ أنّ الترك كلّهم ينتفون لحاهم إلاَّ أسبلتهم (= شواربهم). واستياء من هذه العادة يقول: « وربّما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئاً منها تحت ذقنه، فإذا رآه إنسان من بُعدٍ لم يشكّ أنّه تيس». أمّا السلطة، فإنّ ملك الترك الغزية يقال له يبغو. ومن عاداتهم أنّ الرجل لا ينزع عنه الثوب الذي يلي جسده حتّى ينتثر قطعاً. ويتحدّث عن البجناك (البوشناق) ، وهم قبيلة تركية غزية، طردهم الغزُّ أمامهم، فوجدهم ينزلون على ماء شبيه بالبحر غير جار»وإذا هم سمر شديدو السمرة، حليقو اللّحي، فقراء، خلاف الغزية». ثمّ يقف عند قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد ، رأى فيهم «شرّ الأتراك وأقذرهم، وأشدّهم إقداماً على القتل، يعبدون أربابا مختلفة. .. والربّ الذي في السماء أكبرهم. .. ومنهم طائفة تعبد الحيّات، أو السمك، أو الكركي». يتبع