تتقاطع الفلسفة مع الرحلة في كونهما تدفعان بالإنسان إلى الدهشة، الدهشة أمام المألوف الذي يغدو أمام الفيلسوف، كما هو شأن المترحل.. موضوع حيرة وتساؤل. لذلك فقد نسب إلى أرسطو قوله: "إن الدهشة هي التي دفعت إلى التفلسف"، يدعمه في ذلك رأي شوبنهاور (Schopenhauer) في أن دهشة الفيلسوف تنزع عما يُعتبر عاديا من الأمور حُلّة البداهة، لتتحول بذلك إلى قضية إشكالية تستدعي فهماً جديداً مختلفاً. كذلك شأن الرحلة، فيها يكتشف الإنسان بحق أنه "أكثر الموجودات دهشة". إنه يقف، عند خروجه من عالمه الصغير الذي اعتاده، متسائلا نتيجة ما يواجهه من الظواهر وأنماط الحياة المألوفة عند غيره، لكنها تكون بالنسبة إليه لغزا محيرا. من مفارقته المعهودية التي اعتادها يتبين الرحالة أن الدهشة تتطلب درجة عالية من العقل، لأنها تضعه أمام معطيات جديدة لا يعرف كيف يصنفها أو يتعاطى معها. من ثم تأتي الحاجة الأكيدة للمراجعة العميقة نتيجة ما تعنيه تلك المستجدات من تحدٍّ لمعارفه وما تواضع عليه واقعه. لهذا فلا يستغرب من حضارة ذات توجه كوني غالب، كالحضارة العربية الإسلامية أن يكون لها هذا الشغف بشد الرحال لما تعنيه الرحلة من حرص على معرفة الآخر المختلف، وما تفيده تلك المعرفة من استكشاف ومراجعة وتوسيع للأفق. من ثم كانت ظاهرة الرحالة العرب والمسلمين لافتة للنظر لأنها امتدت من القديم إلى الحديث، وصوب اتجاهات وعوالم متباينة ونائية. لقد زار يحيى الغزال (القرن 3 ه- 9م) بلاد النورمان، وتنقل بعده الطرطوشي القرطبي (4 ه - 10م) بين بلدان شرق أوروبا وألمانيا وبلاد صقالبة الغرب، كما التقى بالبابا يوحنا الثاني عشر. في القرن ذاته اتجه ابن فضلان من المشرق إلى بلغاريا وروسيا، بعده كان الشريف الإدريسي المغربي (6 ه- 12م) يزور سواحل فرنسا وإنجلترا مع إقامة في صقلية في ضيافة ملكها روجر الثاني. ومع ابن بطوطة (8 ه - 14م) كانت الرحلة إلى الهند والصين وبلاد التتار وأواسط إفريقيا. في الفترة الحديثة تعززت الرحلات مع التيجاني (12ه- 18م)، ثم الطهطاوي، والأفغاني، وخير الدين، والسنوسي، مؤكدة -في سياق مختلف- تلك النزعة العريقة القائمة على قيمة التعارف من أجل التحفز الحضاري الذي شهد حالة من التهالك والعجز. في هذا لا ينبغي أن نذهل عن أمرين أساسيين: أولهما أن هذه النزعة لمعرفة المختلف المنطلقة من العالم العربي الإسلامي، خاصة في الفترة الحديثة لا يمكن أن تدرس بمعزل عن الظاهرة الاستشراق المناظرة لها لكن المختلفة عنها في الطبيعة والغايات. فإذا كان المستشرقون قد جابوا بلاد الشرق وتعلموا لغاته وتعرفوا على تراثه فحققوه ونشروه فإنما كانوا يفعلون ذلك من موقع القوة والحرص على التحكم في خارطة العالم ومصادر العلم. كان عموم الخطاب الاستشراقي قائما على مركزية ثقافية تقدّم للغرب صورة عن الشرق تلائم مطامعه التوسعية ونزوعه لامتلاك العالم في واقعه المعيش وفي تاريخه وحضارته. أما الباعث للرحالة العرب والمسلمين في اهتمامهم بالآخر فلم يكن إيديولوجي الطبيعة ولا توسعي الغايات. كان الحرص على الرحلة إلى العالم -والغرب الحديث خاصة- استكشافيا لا تنميط فيه للآخر، بل هو بحث عمراني عن عوامل النهوض والحيوية. بذلك جاز القول إن الرحالة العرب والمسلمين كانوا مسكونين بالشغف الحضاري، والحرص على الاستزادة من العلم وتمثل تجارب الآخرين. إنه تحويل الدهشة إلى وعي أوسع يحقق مزيداً من المتعة والارتقاء. الأمر الثاني الذي لا ينبغي أن نغفل عنه أن ارتياد الآفاق لم يقتصر على الخارج، بل كان داخليا أيضاً. رحلة ابن جبير الأندلسي (6 ه - 12م) قادته إلى المشرق العربي استفاد منها ليسجل معلومات وأخبارا تعبر عن قوة انتباهية في تقييم ما يجري في مراكز العالم العربي الإسلامي وأطرافه. وراء ما نجده من طريف وغريب في هذا الضرب من الرحلات الداخلية التي تفيد الباحث في مجالات الاجتماع والحضارة، فإن قيمتها الأعمق تكمن فيما تحققه من وعي بالذات من أجل القيام بمراجعات نقدية من الداخل الثقافي الخاص. أفضل مثال يمكن تقديمه عن هذه الخاصية الثانية لأدب الرحلة في الحضارة العربية الإسلامية نستقيه من كتاب محمد بن فتوح الحميدي (ت 488 ه- 1095م) "جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس". قال سمعت أبا محمد بن عبدالله بن أبي زيد يسأل أبا عمر المالكي، عند وصوله إلى القيروان من ديار المشرق، وكان أبو عمر قد دخل بغداد في حياة أبي بكر الأبهري، فقال له يوماً: هل حضرت مجالس أهل الكلام؟ فقال: بلى، حضرتهم مرتين، ثم تركت مجالسهم ولم أعد إليها. فقال له أبو محمد: ولمَ؟ فقال: أما أول مجلس حضرته فرأيته مجلسا قد جمع الفرق كلها: المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية، والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر. ولكل فرقة رئيس يتكلم على مذهبه، ويجادل عنه. فإذا جاء رئيس من أية فرقة كان، قامت الجماعة إليه قياما على أقدامهم حتى يجلس، فيجلسون بجلوسه. فإذا غص المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبق لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج علينا المسلمون بكتابهم، ولا بقول نبيهم، فإنا لا نصدق بذلك ولا نقرّ به، وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس، فيقولون: نعم، لك ذلك. قال أبو عمر: فلما سمعت ذلك لم أعد إلى ذلك المجلس، ثم قيل لي: ثَم مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم مثل سيرة أصحابهم سواء، فقطعت مجالس أهل الكلام، فلم أعد إليها. قال أبو محمد بن أبي زيد: ورضي المسلمون بهذا من الفعل والقول؟ قال أبو عمر: هذا الذي شاهدته منهم. فجعل أبو محمد يتعجب من ذلك، وقال: ذهب العلماء، وذهبت حرمة الإسلام وحقوقه، كيف يبيح المسلمون المناظرة بين المسلمين والكفار؟ إنما يدعى من كان على بدعة إلى الرجوع إلى السنة والجماعة، فإن رجع قبل منه، وإن أبى ضربت عنقه. أما الكفار فإنما يدعون إلى الإسلام، فإن قبلوا كف عنهم، وإن أبوا وبذلوا الجزية في موضع يجوز قبولها كف عنهم، وقبل منهم؛ وأما أن يناظروا على أن لا يحتج عليهم بكتابنا، ولا بنبينا، فهذا لا يجوز، فإنا لله وإنا إليه لراجعون". على هذا فقد كانت الرحلات إلى الداخل مكاشفات مدهشة يتوقف عندها كل عقل حصيف وحسّ وقّاد لما يجده فيها من نبض الحياة الذي لا يتوقف في أي مجتمع حيّ. من هنا يمكن القول إن الأسفار إلى الخارج أو إلى الداخل هي طريق لفهم جديد للعالم وللذات. الأسفار تحقق الإسفار، حسب الشيخ ابن عربي، لأنها طريق موصلة إلى معرفة تتجاوز ظاهر الأشياء. كان ينبغي لي أن أمهد بهذا العرض عن الرحلة قبل أن أبسط القول في رحلتين عشتهما الشهر الماضي. كانت الأولى إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة أما الثانية فقد كانت إلى المغرب الأقصى للمساهمة في أعمال ندوة علمية عن العلوم الإسلامية. العرب 2010-04-15