نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. ابن بطوطة (محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم): 1304 – 1377 م. يصف ابن فضلان بلغار الفولقا من الصقالبة المسلمين بمنتهى الدقّة والشمول مبتدئا بالكلام عن ملكهم ألمش المتسبّب في البعثة. ذكر أنّه يحكم بحضرة إخوته وأولاده وأربعة مساعدين يسمّيهم « الملوك الأربعة». وقد جاؤوا عند وصول الوفد يحملون « معهم الخبز واللحم والجاورس ( نوع من الحبوب ) «. ثمّ أعدّت المائدة وعليها اللحم المشويّ فعملوا بآداب الطعام عندهم، ومنها أنّه « لا يمدّ أحد يده إلى الأكل حتّى يناوله الملك لقمة «. ثمّ قدّم لهم شراب السجو المستخلص من العسل. وأثناء جولة لاحظ ابن فضلان أنّ الملك إذا ركب لا يحتاج إلى رفقة أحد، وإذا اجتاز السوق لم يبق أحد إلاّ قام وأخذ قلنسوّته عن رأسه وجعلها تحت إبطه حتّى يمرّ فيردّها إلى موضعها، وكذلك يفعل من يدخل عليه في مجلسه تحيّة وتقديرا، ويجلس أمامه باركا. وكلّهم يسكنون القباب ( الخيام المستديرة)، وقبّة الملك أكبرها إذ تتّسع لأكثر من ألف شخص. وهي مفروشة بالبسط الأرمينيّة، وسريره في وسطها محلّى بالديباج الرومي ( البيزنطي). وإسلام البلغار – حسب ابن فضلان – سطحيّ، يكاد يقتصر على الشهادة بما أنّهم يتبرّكون بعواء الكلاب دلالة على الخصب والبركة والسلامة، ويبجّلون الجدّ على الأب في حضانة الحفيد، ويورّثون الأخ بدل أولاد الفقيد، ويجتنبون الخيمة أو البيت إذا أصابته صاعقة على أنّه مغضوب على من فيه وما فيه، ويثأرون للمقتول على وجه الخطإ بتعليق القاتل في صندوق حتّى يموت ويبلى في مهبّ الريح، ويستخفّون بالحياء والحشمة حتّى أنّهم لا يرون عارا إذا نزلوا للاغتسال في النهر عراة، نساء ورجالا، حتّى قال : « ومازلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك « ( ص 134). وعاقبة الزاني والزانية أن يوثق أرضا من اليدين والرجلين ويقطع بالفأس على أربع وتعلّق القطع في شجرة. والميت لا تبكيه النساء وإنّما يأتيه عبيده بعد الدفن فيضربون جنوبهم بالسيور، وينصبون عليه علما، ويأتونه بسلاحه، ويبكيه الرجال الأحرار. ويتواصل المأتم سنتين يسمح بعدهما لأرملته بالزواج ( ص 144). لا حظ ابن فضلان أنّ القولنج أكثر الأمراض تفشّيا في البلغار حتّى أنّهم يفقدون حمرة الوجه من علاماته. كما لاحظ أنّهم يغطّون رؤوسهم بالقلانس، ويأكلون من القمح والشعير، ويدّخرون طعامهم في مطامير، ويتأدّمون بدهن السمك إذ لا زيتون عندهم ولا زيت. ولهم عسل كثير وتفّاح شديد الخضرة والحموضة وكثير من شجر البندق ومن شجر مفرط الطول أجرد الجذع، يثقب في موضع من ساقه فيخرج منه ماء أطيب من العسل، يسكر من يكثر منه. وكأنّه يشبه « اللاّقمي» في الجنوب التونسي. وعندهم أيضا رمّان لذيذ بلا نواة. كما لاحظ أيضا تفاوت الليل والنهار بخلاف ما اعتاده في بلاده حتّى تداخلت عنده أوقات الصلاة لتعاقب الشروق والغروب في نفس الشفق الأحمر، حسب ما صار معروفا في الدائرة القطبيّة إذا أكل النهار الليل أو أكل الليل النهار بالتداول في السنة نصفا بنصف. وذلك زيادة على مشاهد الشفق إذ بدت له في الجوّ بأشكال آدميّة وحيوانيّة. ومن الغرائب وصف حيوان على هيئة وحيد القرن يصطاده الرّامي بالسهم المسموم متسلّقا الشجر، وكذلك وصف شعب يسمّيه ياجوج وماجوج من العراة كالبهائم، يخرج الله لهم سمكة من البحر لطعامهم كلّ يوم. وروى ابن فضلان عن ملك البلغار أخبارا تذكر لأوّل مرّة عن شعب « ويسو»، ما بين روسيا البيضاء وشمال فنلندا، منها الاتّجار في جلود السمور والثعلب الأسود مع تجّار البلغار. وعن الروس يقول : « لم أر أتمّ أبدانا منهم كأنّهم النخل، شقر حمر، مع كلّ واحد منهم فأس وسيف وسكّين لا يفارقه». ولباس الرجل منهم كساء يستر به أحد طرفي جسمه ويخرج إحدى يديه منه، ويتجمّل بالوشام من القدم إلى الرقبة. والمرأة تشدّ على ثدييها حقّتين من معدن عادي أو نفيس على قدر مال زوجها، وتتحلّى بطوق من ذلك في الرقبة. وأجلّ حليّهن الخرز الأخضر من الخزف. ويسكنون بيوتا من الخشب على شطّ نهر آتل الكبير. إلاّ أنّهم في علاقاتهم الجنسيّة لا يعرفون حياء ولا سترا، وفي حياتهم العادية لا يعرفون نظافة ولا غسلا. يقول متقزّزا : « ولا بدّ لهم في كلّ يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطفسه. وذلك أنّ الجارية توافي كلّ يوم بالغداة ومعها قصعة كبيرة فيها ماء، فتدفعها إلى مولاها، فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه، فيغسله ويسرّحه بالمشط في القصعة. ثمّ يتمخّط ويبصق فيها، ولا يدع شيئاً من القذر إلاّ فعله في ذلك الماء. فإذا فرغ ممّا يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه، ففعل مثل فعل صاحبه. ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتّى تديرها على جميع من في البيت. وكلّ واحد منهم يمتخّط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها « ( ص 152). .يتبع