تقطع بلادنا اليوم خطوة هامّة في طريق استكمال البناء الديمقراطي، ومهما ستكون النتيجة فإنّ الانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها، وبعيدا عما رافقها من منغّصات وبعض السلبيات، كانت اللحظة التاريخيّة المنتظرة لتحقيق المصالحة النهائيّة بين الدولة والثورة. لقد استوعبت هذه الانتخابات، في طبيعة الترشحات وتعدّدها والحملة الانتخابيّة في ثرائها وتجاذباتها أيضا، كلّ الأطياف والحساسيات وجرت وقائعها دون عنف ودون صدامات عنيفة على الرغم من حالة الاستقطاب التي حاول بعض المترشحين الدفع إليها عبر اثارة التنافر الخطير بين الدولة والثورة ومحاولة البعض الآخر إحياء فتنة الهويّة ومدنيّة الدولة وتلميح البعض بالإقصاء و الحدّ من الحريّة وتخويف البعض بعودة القمع والاستبداد. في النهاية، سيصطفّ الجميع، كامل اليوم الأحد، أمام مكاتب الاقتراع للإدلاء بأصواتهم وانتخاب من يرونه الأفضل والأقدر على تولي منصب رئيس الدولة، وسينتظر الجميع الندوة الصحفية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات نهاية اليوم للاستماع إلى النتائج الحاصلة. وسيبدو انطلاقا من يوم الغد الاثنين، أنّ الخطاب الانتخابي طيلة الأسبوعين السابقين، بما فيه من شعارات ووعود وحماسة بلغت أحيانا حدّ السباب والشيطنة، لم يكن سوى سلاح لكسب الأصوات واستمالة الأنصار ولم يكن عاكسا كما يجب لحقيقة واقعة لدى غالبية الفاعلين السياسيين وعموم المجتمع وهي التسليم بالديمقراطية والحرية والتداول السلمي على السلطة والعيش المشترك في ظلّ الاختلاف والتعدّد. إنّ التنافر بين الثورة والدولة الذي عمل بعض المترشحين على النفخ فيه سيضمحلّ نهائيا بإعلان الدخول الرسمي لبلادنا مصاف الدول الديمقراطيّة وقطع هذه المحطة التاريخية الجديدة والهامّة بتكريس أوّل تداول سلمي للسلطة وفق مقتضيات دستور جانفي 2014، فلقد ارتضى الجميع قبول المنافسة تحت خيمة دستور الثورة الذي ارتضته الدولة واختاره المجتمع دون رجعة، دستورا حاميا للدولة المدنيّة وراعيا لاستحقاقات الثورة في الحريّة والكرامة والعدالة. لقد احتضنت هذه الانتخابات الجميع دون إقصاء أو استثناء، وجرت في أجواء من التمدّن والسلميّة، وهي، في كل ذلك، تدفع تجربتنا الديمقراطية، دونما شكّ، دفعا قويّا وصلبا إلى واقع جديد يُسقط نهائيا مخاوف عودة التسلط والاستبداد باسم الدولة وتلغي نهائيا مشاريع التصفية والانتقام باسم الثورة والقطع مع الماضي، وذلك هو المكسب الذي تخرجه به بلادنا اليوم متطلعة إلى آفاق مستقبليّة واعدة تستوجب أن ينكبّ خلالها الجميع لتحقيق الإنقاذ الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والاستقرار المجتمعي بعيدا عن كلّ المزايدات والتجاذبات التي عانت منها بلادنا طويلا خلال السنوات المنقضيّة. إنّ تصالح الدولة والثورة كان الشرط المنقوص أو الفريضة الغائبة لاستقرار أحوال البلاد، إذ تُخفي خيبات الفترة المنقضية صراعا بينهما أوشك في مراحل عديدة أن يهدم أركان الدولة ويضرب سلامة أجهزتها وأن يُوقع الفتنة داخل المجتمع. الثورة ماضية في تحقيق أهدافها والدولة منيعة حامية لمكسب الحريّة والديمقراطية حريصة على التوزيع العادل لثمار الثروة الوطنيّة وعاملة على توفير التنمية والشغل وتحسين ظروف عيش المواطنين.