لم تكن رحلة بل كانت رحلات وصلت الى الشاطئ الإيطالي الحلم خلال ساعات متباعدة. هناك قد ينتهي الحلم ب«الحرّاقة» الى مراكز الإيقاف حيث يضطرّون لحرق بصماتهم خوفا من التعرّف على هوياتهم وترحيلهم. تونس(الشروق) حصل هذا خلال الأسبوع الأخير من الحملة التشريعية ومع انطلاق الحملة الانتخابية للدور الثاني للرئاسية. هرب الشباب في انتخابات مفصليّة قِيل عنها إنّ الشباب يخوض فيها معركته الأخيرة من أجل إسقاط «السيستام» انتصارا لنفسه وعقابا للأحزاب التي خذلته ولتعديل بوصلة الثورة بثورة سياسية. فممّا يهرب هؤلاء؟ في ليلة واحدة في الوقت الذي كانت فيه رحى الحملة الانتخابية للمترشحين للبرلمان الجديد تدور استغلّ عدد من الشباب هدوء الطقس وتحسّن الأحوال الجويّة للانطلاق في رحلاتهم المجهول في اتجاه الساحل الإيطالي. ولئن نجحت القوات الأمنية في أواخر شهر سبتمبر في احباط عدد من محاولات عبور لمهاجرين غير نظاميين انطلاقا من تونس إلا ان عددا آخر من الرحلات وصلت الى وجهتها وبعضهم لم يصل بسبب اعتراض خفر سواحل إيطالية لمركبهم. وتشير الأرقام الإيطالية الى وصول 53 تونسيا على متن ثلاثة مراكب في ليلة واحدة كما ارسى مساء 2 أكتوبر مركبا على متنه 56 تونسيا ووصل مركب آخر محملا ب21 تونسيا الى جزيرة قوينلي ومركب يحمل 13 تونسيا على شاطئ طاباكارا في الجنوب الإيطالي بالإضافة الى وصول 46 مهاجرا غير نظامي تونسي الى شاطئ قالامالوك في احواز لمبيدوزا و10 آخرين في نفس الليلة الى ميناء لمبيدوزا و21 مهاجرا غير نظامي وصلوا الى اقريجانتو. من جهتها تقول ارقام قسم الهجرة في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن 24 ساعة فقط نهاية شهر سبتمبر شهدت على وصول 141 تونسيا بينهم 3 نساء و41 طفلا. إذ وصل المركب الأول محملا ب25 مهاجرا بينهم 8 أطفال ووصل المركب الثاني محملا ب23 مهاجرا بينهم 4 أطفال ووصل الثالث محملا ب14 مهاجرا بينهم 11 طفلا ووصل الرابع محملا ب16 مهاجرا بينهم 3 نساء و6 أطفال ووصل الخامس والسادس محملان ب30 مهاجرا بينهم 12 طفلا والمركب السابع والثامن محملين ب33 مهاجرا. هذه «الهجمة» لقوارب الموت على الشواطئ الإيطالية حدثت في زمن سياسي يْفترض انه الزمن الشبابي بامتياز حيث يخوض فيه الشباب تجربة الانتفاضة ضد ما أسموه ب»السيستام» وتغيير المشهد السياسي برمته من أجل آفاق جديدة وفرص جديدة للحياة والتنمية والشغل والكرامة. موسم الهجرة نحو الشمال في اجندا «الحرّاقة» شهر سبتمبر هو موسم للهجرة غير النظامية ففي العام 2017 تضاعفت اعداد محاولات العبور في اتجاه الساحل الإيطالي مع نهاية شهر سبتمبر ثلاث مرات في مقارنة بشهر اوت. وبالتالي لم تكن هذه الرحلات مفاجئة وربّما كثرتها تأتي بالتزامن مع الموسم الانتخابي واهتمام الجميع بما يدور حول الحملة الانتخابية والتنافس بين المترشحين وأيضا تركيز الوحدات الأمنية والعسكرية على تأمين هذا المسار الانتخابي. ويمكن إيجاد تبريرات أخرى كفيلة بفهم دوافع هذه الهجرة غير النظامية ومنها تأزم الوضع اقتصاديا واجتماعيا في تونس وتواصل انسداد أبواب الدول الأوروبية بالنسبة للراغبين في العبور بطريقة نظامية وذلك بالتشدّد في منح تأشيرات السفر. لكن السؤال الأهم من دوافع الرحلات هو من هم هؤلاء المهاجرون؟ من اين ينحدرون وماهي خصوصيتهم الثقافية والتعلمية والاجتماعية. تكشف دراسة ميدانية للتمثلات الاجتماعية والممارسات والانتظارات انجزها قسم الهجرة حول الشباب والهجرة غير النظامية في تونس في دسيمبر 2016 ان الفئة العمرية 20-24 هي الأكثر استعدادا للهجرة غير النظامية بنسبة 38.2 بالمئة تليها الفئة العمرية 25-29 ثم الفئة العمرية 18-19 والفئة العمرية 30-34. وينحدر اغلب الحراقة من الاحياء الهامشية التي تعاني من الاقصاء الاقتصادي والاجتماعي وغالبا ما تكون مستوياتهم التعليمية ثانوي ثم بدرجة اقل ابتدائي ثم بدرجة أقل عالي. ويهاجر بشكل غير نظامي من كان يبحث عن شغل ومن كان أيضا يشتغل ويدرس في الثانوي وفي الجامعة. اما بالنسبة لمصادر تمويل هذه الرحلات تكون في الغالب ذاتية وأيضا عائلية (44.1 بالمئة). هؤلاء يجدون المساعدة من وسطاء هجرة غير نظامية يقطنون في احيائهم لتقديم كل المعلومات الضرورية حول تفاصيل الرحلة وربط العلاقة مع أصحاب «قوارب الموت». ويعتقد اكثر من 90 بالمائة من الحراقة ان الغرق هو أكبر المخاطر التي تنتظرهم عرض البحر ويعرف 40 بالمائة من الحراقة القوانين التونسية ذات العلاقة بالهجرة غير النظامية و82 بالمئة منهم لهم علم بالمواثيق والمعاهدات الدولية حول الهجرة غير النظامية. زهم على دراية أيضا بسوء المعاملة في دول الاستقبال الأوروبي ومنها الترحيل القسري لاجل ذلك يلجأ الكثير من الحراقة الى حرق بصامتهم في مراكز الاعتقال كي لا يتم التعرف على هوياتهم وبالتالي ترحيلهم الى وجهاتهم. وتشير إحصاءات الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود الى وصول 64261 مهاجرا غير نظامي الى مضيق صقلية منذ العام 2011 كان من بينهم 27864 تونسيا انطلقوا تحديدا من جرجيس وصفاقس والمنستير ولقي 1500 شخص حتفهم عند محاولة العبور من بينهم ألف تونسي وفقا لقسم الهجرة. ولا يبدو طريق الموت غرقا او الاختفاء الابدي عرض المتوسط سيُقطع مادام هناك آلاف الحالمين بالهجرة غير النظامية. هذه الرحلات لا تتوقف هي فقط تتزايد وتصبح تحت المجهر عند المناسبات. عبد الرحمان الهذيلي المشهد السياسي الجديد سيعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية كيف تفسر هذه الموجة من الهجرة غير النظامية المتزامنة مع الانتخابات؟ عموما تثبت الأرقام الى حدود اليوم أن عدد المهاجرين الذين وصلوا الى الضفة الشمالية للمتوسط بطريقة غير نظامية منذ بداية جانفي الى نهاية سبتمبر 2019 بلغ 2675 مهاجرا مقابل 4487 مهاجرا خلال نفس الفترة الزمنية سنة 2018 لكن ما ميّز هذه السنة هي أولا حصيلة شهر سبتمبر 2019 والذي سجّل توافد 849 مهاجرا على السواحل الإيطالية مقابل 675 مهاجرا سنة 2018 أي بزيادة 25 % وثانيا عدد التدفقات في الليلة الفاصلة بين 28 و29 سبتمبر والذي بلغ 141 مهاجرا منهم 41 من القصّر و3 نساء . هذا الاستثناء خلال شهر سبتمبر وبداية أكتوبر يعود أساسا الى تعمّق العوامل الدافعة للهجرة وخاصة من الاقتصادية والاجتماعية والذاتية (العوامل الطاردة) إضافة الى الظرف المناخي والأمني والسياسي المناسب حيث سياسيا تعيش الدولة والمجتمع على وقع الانتخابات الرئاسية والتشريعية وما يتبعها من اهتمام ونقاشات إعلامية وميدانية وافتراضية وما يتطلبه ذلك أيضا من استعدادات أمنية لتأمين كافة المسار الانتخابي بداية من ما قبل الحملة الانتخابية وصولا الى ما بعد النتائج وهو ما مكّن شبكات تنظيم الحرقة من الزمن المناسب. انصب الاهتمام على دراسة التغييرات التي رافقت السلوك الانتخابي وتحليلها في حين أهمل سلوك العزوف والمقاطعة ورتّبت فئات أخرى من الهامش أولوياتها وهو العبور نحو الضفة الشمالية سعيا للخلاص من مشهد زادت في ضبابيته نتائج الانتخابات. أمام هذا التشتّت في توزيع المقاعد في البرلمان وامام سيناريوهات صعبة في تشكيل حكومة جديدة وامام أزمة اقتصادية واجتماعية معقدة كيف تستشرف مستقبل رحلات الهجرة غير النظامية هل تتوقع زيادة في نسقها؟ وكيف يمكن التصدّي لها؟ للأسف قضايا الهجرة لم تحظ بالاهتمام الكافي خلال النقاشات التي رافقت الدور الأول من الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية وهي مرتبطة في جزء كبير منها بطبيعة علاقتنا مع الاتحاد الأوروبي حيث للأسف نجحت دوله في تصدير أزمتها نحو تونس وسط صمت دبلوماسي رسمي. وهذا المشهد السياسي الجديد لن يمثل حلاّ للمطالب الاقتصادية والاجتماعية الملحة لعديد الفئات ولا يحمل في عناوينه قطيعة جذرية مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية السابقة بل سنشهد احباطا لفئات واسعة انخرطت في العملية الانتخابية على امل ان تمثل طريقا للحل لنشهد موجات احتجاجية جديدة ستكون الهجرة غير النظامية احدى تعبيراتها. فلا يمكن اليوم في ظل هذه الظروف وهذا السياق ان تتوفر إرادة سياسية للعمل من اجل تقليص الظاهرة ليبقى الحل الأمني هو الإجابة الوحيدة لدى هذه الطبقة السياسية لمواجهة الهجرة غير النظامية. ان الفهم الحقيقي لقضية الهجرة غير النظامية بكل ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وحده ما يمكننا من العمل على إيجاد حلول للحد من الظاهرة والحفاظ على أرواح شبابنا وذلك يمر حتما عبر منوال تنموي بديل أكثر عدالة وانصافا ولا يقصي أحدا تعليميا وتكوينيا واقتصاديا واجتماعيا وعبر علاقة ثنائية ندية مع الاتحاد الأوروبي تكرّس تبادل الحرّيات وليس فقط حرّية التبادل فكما تتنقل سلعهم ومرابيحهم ومواطنيهم بحرية فمن الواجب ان نطالب بالمثل ودون قيود تكريسا للحق الإنساني في التنقل.