الشخصية الحيوان «قاعد تحاول تزلق في شوكة تحت سرج حصاني. باش يهيج» في هذا الفضاء المتعدد وبعد مشاهدتي لمسرحية سوق سوداء الكثير من المرات في أفضية مختلفة بين أفضية مفتوحة وأخرى مغلقة لا يضيع خيط الحيوان مع الممثلين ضمن مقولهم المتوحش حول أحقية الحيوان بين الممثل – الشخصية مع ضرورة ايجاد مسافة الإغتراب العادلة بين النفسي المبعثر وبين النفسي الحيواني الحقيقي عند اللحظة المسرحية الوازنة للفعل التراجيدي لهذه الإنسانية المضحكة التي أصبحت تبيع الرغبة خلسة. وفق ضوابط مسرحية دقيقة جدا وتفاعلية مكتملة كمسألة رياضية – هندسية فدرجة تحكم كل من الممثلين في إيقاعية الحركة دون مغالاة ولا شطط ولا فقر مميت ومبالغ جعلت من الهفوة الحضارية بين كولتاز وتطاوين سوى تعبيرة جغرافية يمكن أن تكون داخل الفعل الإبداعي الكوني. «نخير القانون على منطق جهدك ياعلاّف وضوء التريسيتي الي يشعشع على ضو النهار ونمّن الى اي ضوء طبيعي وأي هواء موش مصفي وأي طقس موش معدّل ، ما ينجم يهزنا كان للصدفة والمهالك على خاطر تقريبا في الدنيا هذه ما ثمّاش أمان ولا حق .» هكذا قال الزبون للبائع ويحدث في المعنى المسرحي أن يتحول الفلسفي من جهة العقل ليصبح لغة الجوع وتشكيلة الجسد ،عندما جسد الممثل علي بن سعيد شخصية الزبون لم يستخدمها ولم يتعامل معها ككائن عادي واقعي أو هلامي بل كان التعامل معها بندية مطلقة مع شخصية نابضة من النص بفكر متحدي للضحل الإنساني ببلاغة جسدية محيرة تملك هاجس الرجة والحيرة وهنا تكمن تجربة الممثل في تطويع المعرفي المريب مع لغة الجسد الغريب – المتجدد دائما مع حفاظ الممثل على طاقة متجددة للغة جسده في بلد مهزوم دائما وهنا أوجد محراب البلاغة لشخصية الزبون الذي لا يحمل سلاحا سوى «اللا « الرفض المطلق لكل المقدم من أجندات التاريخ المزور لهذا الإنسان الهزيل. «كل ما كان البياع قد قد.كل ما كان الشراي بلعوط» تنتهي المغامرة بين رفقة كولتاز وعلي اليحياوي لأن اختيار الشخصيات –كعالم للمثل بهذه الطقسية الراديكالية حتى نعبر مسافة الإنسان الخاطئ فلا يجب هنا أن نرضى بأقل من التوازن داخل الفضاء المسرحي التي منحته الشخصيات ومنحه النص المسرحي والنص الإنشائي – الركحي الذي تصوره عوامل الإخراج وأشكالها الشعرية الصوتية – الإيقاعية مع تمظهرات الضوء كشكل ميتافيزيقي لا يمكن لمسه بل أن نحسه ويحسسنا بهفوة الليل أو النهار أو ما يحدث بينهما. « الوجيعة تتقاس . انجموا نحكروا قسوتها وعذاباتها ونتحملوا اجراحها وبالوقت ننسوها وتتفسّخ» هنا يتنزل محمد شعبان الممثل لشخصية البائع لكل شيء ليصبح المساوم للنسيان ،نسيان ألم الحقيقة وهنا يتردد السؤال حول وجع الإنسان : كيف ينسى الإنسان وجع الدم والثورة المهدورة وتمرد أول الحب أثناء الرغبة؟ لم يولد الإنسان بمجانية الطبيعة بل ولد ليجيب عن سؤال هوس الرغبة الدفينة في لذة الوجود. « المسألة ما هياش مسألة قوّة واكهو» ينتهي السؤال النيتشوي بهيمنة لغة الفعل المسرحي لأنه فعل وكيفية وجود كما أقرّ المفهوم الأرسطي فالشخصية تبرر ذلك بحرارة الأرض وبرودها أي بين فاعلية الحياة والنهاية كموت لحرارة الجسد وهو ما يعنيه الوجد المسرحي حين تتخلل الشخصية المسرحية وجودها بين ضفتين بداية الحكاية ونهايتها بتصفيق حار ووهج للبكاء المستمر ولوعة لنهاية كل حلم لم يكن حقيقيا للأسف. «انت باندي من طينة غريبة» أظن أن فريديريك نيتشه «باندي فلسفي» من طينة الغرباء لم يستسلم لصرامة العقل التاريخي بل واجهه بكل طيش وتمرد أخلاقي خارج اللعبة التراجيدية عن طريق الشعر لأحيان قصيرة. تخوض الشخصيتين صراعها مع صراع وجود الرغبة المتخفية – المعلنة حول الحب لتنصهر دائما في دواخلها حتى تغيب عنا ملامح الممثلين فلا نجد لحظة فارقة تبعدنا عن واقع ما نشاهده. تمرد المخرج علي اليحياوي على زبد التاريخ المسرحي وعاد إلى درسه الأول فأوقعنا في حيلة التماهي مع ما يحدث لنا وما صرنا عليه رقما في البورصات ورقما بين إحصائيات الوفيات ،لسنا بالمتقبل الذكي ولا بالمتفرج الذي يحق له التفكير بعد هزيمة الإنسان بل نحن مجرد أرقام تأتي للمسرح لتنسى علة رغبتها الأولى. « نحب ذاتي كاملة وبكل قسوة» لا تنتهي هنا المسرحية بل هنا حدة الصراع والقرار بعد التمرن حول درس تأصيل الوجود ليعود إلى الصراخ والقسوة المفعمة بالحرج مثلما صاغها الممثل علي بن سعيد صائحا في كل عرض. « السر في الصبر يا حبيبي « هكذا يجيبه بغتة هذا البائع الغريب فلا يمكن للقسوة أن تداول نفسها دون صبر ثم حب. استطاعت مسرحية سوق سوداء لمخرجها علي اليحياوي في اجتياز حدود الهوية فعندما أرست تشكلاتها المسرحية في عدة مدن تونسية رغم اختلافات تقبّلها للأثر المسرحي رغم صرامته التقنية على مستوى الإضاءة والصوت ورغم صعوبة لغته الأدائية للممثلين أي ضد ما تعارف عليه الجمهور العريض من لغة المحتكرين من الممثلين التلفزيين (رداءة الأداء طبعا) فإن الجمهور تقبل صعوبة اللغة المسرحية في سوق سوداء وتفاعل معها جديا وشعوريا وإنسانية بدرجة بالغة الرقة رغم توحش اللحظة. تجسد صراع بين شخصية البائع والزبون بوضوح رغم عتمة البضاعة وغرابتها لكنه نجح في تأكيد تفاصيل هذه العملية ومحوريتها التي تودي بذات الإنسان نحو القتل أو ربما اللاوجود. « ما ثمّاش قواعد .. ثمة الدغرة والتفشيخ ..ثمّة السحل .. ثمّة التّهريس وتكسير العظام وقصّان الروس ..الذّبح من الوريد الى الوريد.. ما ثماش قواعد.» وهذا ما يحيط بنا دائما وهو ما عبر عنه البائع في نهاية مساومته للزبون. ليرد عليها الزبون والتاريخ مع « وقت إلّي الدّم يسيل حدّ ما عاد ينجّم يوقّفه.. بش يفيّع منّي ومنّك .. وقتها الدّم يوحّدنا ، كيف زوز زنديانات وسط الهوايش المتوحّشة .. ما ثمّاش حبّ ... ما ثمّاش حبّ .. ما عندك وين توصل .. على خاطر الرّاجل يتولد بموته .. يقعد يلهط من نور لنور يفركس في أجله لين يطمبش فيه بالصّدفة ما ثمّاش حبّ .» هكذا يطمئن الفعل المسرحي بين كولتاز وعلي اليحياوي بين فرنسا وتطاوين بين لحظات تاريخية مفارقة يكون المسرح فعل نبيل تام وكوني الآن وهنا. من مسرحية