في معتمدية سبيطلة من ولاية القصرين..إحدى أشد الولايات فقرا في تونس، قتل أحد المهمشين، أحد المنزوين في الزوايا الخلفية لدفاتر الإحصائيات الحكومية ، الذين لا يتذكرهم أحد إلا وقت الحملات الإنتخابية أو الاستعراضات الشعبوية للسلط المحلية مثلما حصل مع المواطن المهمّش عبد الرزاق خشناوي. المواطن خشناوي، الخمسيني، دفع حياته ثمنا لحملة هدم للأكشاك العشوائية، حملة قرر المسؤولون المحليون تنفيذها في الفجر، استهدفت مجموعة من المناطق الشعبية في محاولة لذر الرماد في العيون والإيهام بقوّة وهيبة الدولة.. تلك الهيبة التي أريقت على قارعة الطريق مثلما أريقت دماء المواطن خشناوي وهو نائم يحرس كشك إبنه ومصدر رزقه الوحيد، دون سابق إنذار. هيبة الدولة التونسية وصرامتها في تطبيق القانون تجلّت أيضا بعدما رجّت الجريمة المنطقة وخرج المهمشون ينعون رفيقهم وعلت أصواتهم فوق صوت صفير سيارات الشرطة، وتداول الناشطون على مواقع التواصل الفيديو المأساوي لعملية الهدم، حينها بدأ كل من والي القصرين ورئيس البلدية في رمي كرة المسؤولية لبعضهما البعض، وبدأ كل منهما في محاولة تبييض صفحته والتنصل من آثار الجريمة بنشر المحادثات الخاصة بينهما على العلن وفي انتظار ما ستكشف عنه التحقيقات الروتينية ويتكفل القضاء بإصدار أحكام للمتهمين في إزهاق روح بشرية أثناء عملية هدم ليلية ما أنزل الله بها من سلطان. في تونس القانون له عدة وجوه، وكثير من التجليات، قوانين صارمة حازمة كالحة الوجه تطبق على الفقراء تهدم فيها بيوتهم وأكشاكهم على رؤوسهم، يسقط أطفالهم في بالوعات الشارع التي لم تدخر البلدية جهدا في إغفالها أو يموتون ببساطة على قارعة الطريق، القانون يطبق بيد من حديد على هؤلاء المارقين الذين ينتصبون بأكشاك أو عربات عشوائية على قارعة الطريق يلتمسون لقمة العيش التي ضنّ بها "السيستام" عليهم، لتأتي جرافة البلدية وتضع حدا لكل هذا وتهدم المكان على رؤوسهم...رغم أم البلدية من أولى مسؤولياتها ضمان أماكن عمل تحفظ للباعة كرامتهم وحياتهم. بينما للقانون التونسي وجه آخر لطيف ظريف، أمام رجال المال والأعمال المتعسرين في سداد قروض بالمليارات، أو الذين نهبوا ميزانيات تكفي لإعمار تونس مرتين وثلاث وفروا خارج البلاد، هؤلاء يهدهدهم القانون برفق ويرفق بهم ويستسمحهم في سداد ما عليهم- إن قبلوا- فهم الوجه الحسن لتونس في الخارج، وأصحاب النفوذ في الداخل..هم الملاّك والبقية الأجراء أو"الكرّاية" ..فطبيعي أن يكون للملاّك ما لا يكون للكاري. قبل 10 سنوات، في سيدي بوزيد، ولاية تقع تحت خط الفقر بدرجات كثيرة، أشعل بائع متجول النار في نفسه احتجاجا على إهانة كرامته من طرف عون تراتيب، احتج على تهميشه وفقره وبطالته التي طالت عقودا، اشتعل وأشعل معه لهيبا أحرق منظومة بأكملها نخرت البلاد فسادا وتهميشا وجوّعت الناس، واليوم لا يختلف المشهد كثيرا عما سبقه، لكن الفرق أن الدولة استجرمت واستفحل إجرامها فأصبحت تكنس المهمشين بالجرافات وتردمهم أحياء دون أن تتعظ من السابق، فهل يشتعل الفتيل هذه المرة ليحرق كومة القش الهشة التي يختبئ خلفها أصحاب الكراسي؟ للحديث بقية..