بكل المقاييس، وبكل المعاني، فإنّه يمكن توصيف المشهد التونسي بأنه مشهد سريالي... في هذا المشهد نجد خرابا اقتصاديا توقفت بمقتضاه أو تكاد عجلة الاقتصاد عن الدوران وانحدرت كل المؤشرات إلى مستويات منذرة بانهيار وشيك... وفي هذا المشهد نجد عجزا ماليا غير مسبوق بات يضع الدولة على حافة الإفلاس وما هي إلا رجّة واحدة وخفيفة حتى يحدث الانهيار المدوي. في هذا المشهد السريالي نجد دولة عاجزة حتى عن حماية مواطن إنتاج نفطها وفسفاطها لتضطر إلى توريد الفسفاط للإيفاء بالتزاماتها ولتوريد المزيد من النفط لسدّ حاجاتها في حين تنام مقدراتها النفطية «راضية مرضية» بعد غلق «الفانة». في هذا المشهد مواطنون يمارسون لعبة غلق الطرقات وغلق مواطن الإنتاج وقد أصبحت «رياضة وطنية» يلجأ إليها الغاضبون المهمّشون للمطالبة بالتشغيل وبالتنمية وبإنهاء «الحقرة» والتهميش... في هذا المشهد دولة أو شبح دولة- أصبحت تختزل هيبتها في مزيد تقصير جدرانها ليسهل تجاوزها حتى على الكسيح وليسهل على المواطن ممارسة تغوّله على دولة عاجزة لا تقدر إلا على عرض الخدّ الأيسر كلما تلقت صفعة على الخدّ الأيمن... هذا المشهد العجيب والغريب جاءت جائحة الكورونا لتزيده عجبا وغرابة عندما شفطت ما ترسّب من موارد وعصفت بصحة المواطن وعرّت وضع مستشفياتنا المزري وبؤس منظومتنا الصحية التي لا تتماسك إلا بفعل مجهودات خارقة مازال يبذلها المخلصون في الجيش الأبيض للذود عن صحة المواطن وتأجيل الطامة الكبرى إن لم تسعفنا العناية الإلهية بالقضاء على هذا الفيروس اللعين... وحتى يكتمل المشهد فإن مسؤولينا الموقّرين، وقد شربوا من كؤوس السلطة والنعيم حتى الثمالة اندفعوا لتوجيه الضربات الأخيرة الكفيلة بإسقاط الدولة بالضربة القاضية. صداع في رأس السلطة تتقاذف فيه الرئاسات الثلاث بالتهم وتنخرط في صراع نفوذ وتنازع سلطات حتى بتنا نسمع جهارا نهارا عن مؤامرات ودسائس تحاك في الغرف المظلمة. وعن تواطؤ متآمرين من الداخل مع إرهابيين في الخارج ليتسلّل السرطان إلى مواضع كنا نحسبها آخر حصوننا في مواجهة الأنواء والعواصف. ولتكتمل الصورة يتفجّر ذلك الصراع العلني والمقرف في رأس المؤسسة القضائية ليفتح التونسيون عيونهم وآذانهم على مشاهد وروايات مضحكة مبكية ضربت مصداقية القضاء في مقتل وهزّت ثقة المواطن في مؤسسة كنا نعدّها الوتد القوي الذي يسند الدولة. هكذا، بلا وجل ولا مراعاة لدقة وضع البلاد ولحساسية الظروف التي تمر بها ينخرط المسؤولون في أعلى المستويات في صراعات لا تفضي إلا إلى تدمير الدولة وإلى ضرب ما بقي من مصداقية لمؤسساتها وإلى زعزعة ثقة المواطن في دولته وفي كل مؤسساتها. فماذا نريد وماذا ننتظر حين نستسلم لهذه الهيستيريا المدمّرة التي تأتي على الأخضر واليابس؟ وماذا يريد مسؤولونا في كل المستويات وفي كل القطاعات حين ينخرطون في هذه الصراعات العبثية التي ترسل إشارات خاطئة الى المواطن وتضعنا على حافة انهيار كامل للدولة سوف تتبعه حرب أهلية مدمرة لن تبقي ولن تذر ولن يخرج منها غالب ولا منتصر... بل الكل فيها مغلوب. إن بقي في هذه البلاد كبير أو عاقل فما عليه إلا أن يسمع صوته ويصرخ في الجميع: كفاية! توقفوا عن تدمير المركب فإن الغرق ينتظر الجميع... وأسماك القرش لا تنتظر إلا تلك اللحظة ليبدأ «عرس الدم» لا قدر الله. عبد الحميد الرياحي