رغم أن ظاهرة الجريمة ليست جديدة لدى التونسيين، إلا أن منسوب بشاعتها ارتفع في الفترة الأخيرة خاصة تلك التي تُزهق فيها أرواح أبرياء أو تترتب عنها أضرار بدنية جسيمة لأسباب تافهة أغلبها السلب أو السرقة أو إثر شجار بسيط في الشارع او داخل العائلة، على غرار ما حصل مؤخرا وسط العاصمة وفي سوسة وبنزرت والكاف وحي الانطلاقة وسيدي بوزيد... جرائم فظيعة اهتز لها الرأي العام تدفع في كل مرة إلى التساؤل عن أسبابها ولكن خاصة عن الحلول الكفيلة بالحدّ منها حتى لا تتحول إلى "هاجس يومي" للتونسيين يؤرقهم ويصيبهم بالذعر حيثما كانوا، في الشارع وفي الأماكن العامة وفي المنزل وفي مواقع العمل وداخل سياراتهم أو في وسائل النقل العمومي، ولا يسلم منه لا الكبير ولا الصغير ولا الغني او الفقير.. وبالإضافة إلى ما تُسببه الجرائم البشعة من أسى ولوعة في قلوب عائلات الضحايا ومعارفهم وأصدقائهم، فإنها تحولت إلى كابوس جاثم على صدور التونسيين يُربك حياتهم العادية ويُجبرهم على الامتناع عن قضاء بعض الشؤون اليومية بعد ان أصبح التوجه إلى بعض الأماكن مُخاطرة غير محمودة العواقب بالنسبة إليهم، ويُجبر محلات التجارة والخدمات على غلق أبوابها باكرا.. ويكفي إلقاء نظرة على المدن الكبرى وعلى وسط العاصمة خلال ساعات المساء الأولى للتأكد من أن بلادنا تنام باكرا عكس العواصم والمدن الكبرى بعديد دول العالم التي تدب فيها الحركية التجارية والترفيهية إلى آخر الليل. ففي تونس أصبح كثيرون يخشون السهر والبقاء خارج المنزل ليلا بسبب الخوف من براكاج مفاجئ أو سرقة أو عنف في الشارع أو في وسائل النقل العمومي أو داخل السيارة.. وإذا كانت المقاربة الأمنية والردعية ضرورية للتصدي لظاهرة الجريمة، إلا أنها تبدو غير كافية في نظر كثيرين. فعديد المجرمين ينالون أشد العقاب إلا أنهم يعودون لارتكاب الجريمة حال خروجهم من السجن. كما أن كل الجرائم لا تُرتكب لغاية السرقة والسلب بل تكون وراءها دوافع أخرى اجتماعية ونفسية وغيرها. وهو ما يؤكد ضرورة البحث عن مقاربات أخرى.. ويدفع كل ذلك إلى مزيد التدقيق في أسباب ظاهرة الجريمة والبحث عن حلول جذرية لمعالجتها مع مواصلة الردع وتسليط أشد العقاب. والثابت أن الوضع النفسي الصعب الذي يعيشه التونسيون منذ سنوات نتيجة ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وغلاء المعيشة والفساد والفوضى والانقطاع المدرسي والمشاكل العائلية ووباء كورونا لم يمرّ دون تكلفة باهظة وهي ظاهرة تعدد الجرائم وبشاعتها. إن التصدي الناجع لارتفاع معدل الجريمة وخاصة بشاعتها أصبح يقتضي اليوم معالجة المظاهر الأخرى التي تتسبب فيها بشكل مباشر وغير مباشر. فالانقطاع المدرسي يُعدّ من الأسباب البارزة شأنه شأن البطالة المُطولة والقاسية على كثيرين والفقر "القاتل" داخل عديد العائلات والتهميش المُدمّر في عديد المناطق والأحياء إلى جانب مختلف الصعوبات المعيشية الأخرى أبرزها ارتفاع الأسعار. إن احداث مشروع تنموي في منطقة فقيرة لتشغيل العاطلين أو بناء ملعب رياضي أو مركز موسيقى أو مركب ثقافي في حي شعبي مهمش ومزيد العناية بالمنظومة التربوية لتقليص الانقطاع المدرسي وأيضا تحسين المستوى المعيشي للفقراء والمهمشين حلول كفيلة بإبعاد كثيرين عن عالم الجريمة شريطة أن يتواصل بالتوازي معها الردع والصرامة تجاه المجرمين. وهو ما على الحكومة الجديدة التفكير فيه بشكل جدي لحماية المجتمع من آفة الجريمة التي لا تهدد ضحاياها فحسب بل المنظومة الاقتصادية برمتها وتشوه صورة البلاد بشكل عام.. فاضل الطياشي