رغم أن "مافيات" و"لوبيات" السمسرة والاحتكار والمضاربة والتجارة غير المشروعة لم تترك في السنوات الأخيرة مجالا إلا واستهدفته، إلا أن امتداد أيديها إلى المواد المدعومة من الدولة، والتي من المفروض أن تكون مُحصّنة تجاه كل أشكال التلاعب، أصبح يطرح أكثر من نقطة استفهام واستغراب. فمنظومة الدعم في تونس أصبحت بمثابة "الحمار القصير"، يمتطيها كل من هبّ ودبّ من هذه "العصابات" ويحولونها إلى مصدر للتمعش من المال العام وجني الأرباح بطرق غير مشروعة بدل ان يستفيد منها المواطن خاصة الطبقات الضعيفة والمتوسطة. منذ سنوات وإلى حدّ الآن، تستهدف هذه المافيات قطاع الحبوب وذلك على مختلف المستويات وعلى مرأى ومسمع من أجهزة وهياكل الدولة، بدءا بمستوى عملية تجميع وتوريد وتخزين الحبوب مرورا بمستوى المطاحن ومنظومة الدقيق (الفارينة والسميد) وصولا إلى منظومة المخابز وصنع العجائن الغذائية. وهو ما أدّى أكثر من مرّة إلى اضطراب منظومة الخبز والعجين الغذائي وتحويلها الى كابوس مخيف للتونسيين جرّاء النقص الذي أصبح يُسجّل في توفّر مواد الفارينة والسميد والخبز والعجائن الغذائية المصنّعة. ولم يسلم قطاع الأعلاف المدعومة من نشاط هذه المافيات وذلك على مستوى التوريد والتخزين والتوزيع، حيث أصبحت تمارس فيه كل أشكال السمسرة والمضاربة والاحتكار والتمعش من المال العام على مرأى ومسمع من مختلف أجهزة الدولة. وهو ما فاقم معاناة الفلاحين ومربيي المواشي ودفع بكثيرين الى التفريط في القطيع بعد ان أصبحوا عاجزين عن مجابهة الأسعار المرتفعة للأعلاف وندرتها، وساهم في ارتفاع أسعار اللحوم بأنواعها . وفي قطاع الزيوت النباتية، خاصة الزيت المدعم، تنشط بقوة أيضا مافيات ولوبيات بعد أن وجدت في هذا القطاع الأبواب مفتوحة للاثراء غير المشروع فأصبح الزيت المدعم عملة نادرة يقع تداولها بطرق مشبوهة داخل منظومة فساد موسعة وكبرى وحُرم منها المواطن. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل شمل أيضا مواد مدعومة أخرى مثل السكر والمحروقات إضافة الى المواد ذات الأسعار المؤطرة والتي تدعمها الدولة بطريقة غير مباشرة مثل قطاع الحليب وقطاع البيض والدواجن وقطاع اللحوم الحمراء وبعض المنتجات الفلاحية الأساسية مثل الخضر والغلال، وكل ذلك بعلم الدولة وأجهزتها وهياكلها.. ولم يكن بإمكان هذه المافيات النجاح في أنشطتها المشبوهة والفاسدة لولا أنها وجدت منظومة الدعم هشّة وضعيفة وغير مُحصنة، تُدار بأساليب ووسائل بدائية وتقليدية.. كما أنها وجدت التسهيلات والابواب المفتوحة والضوء الأخضر داخل الإدارات والهياكل المعنية خاصة من قبل الهياكل المهنية المشرفة على القطاعات والتي تحول بعض مسؤوليها الى مشاركين في أنشطة الاحتكار والسمسرة والفساد بدل أن يكونوا حريصين على حمايته وعلى حماية المقدرة الشرائية للمواطن وعلى المحافظة على المال العام المتأتي من الدعم. كما أن ضعف المراقبة وغيابها أحيانا وعدم قيام الهياكل الرقابية الكبرى بدورها كاملا في هذا المجال شجّع كثيرين على التمادي في أنشطة الفساد والسمسرة والاحتكار والمضاربة. فقد كان المفروض أن تكون منظومة الدعم وصندوق التعويض مُحاطين بإجراءات وقيود صارمة ومتشددة من حيث الرقابة والعقاب تحول دون المس بها واستهدافها لكن ذلك لم يحصل على امتداد السنوات الماضية وإلى حدّ الآن وهو ما يحتّم تعجيل الدولة بالتدخل الحاسم للقطع نهائيا مع مختلف هذه المظاهر. ويبقى الحل الأمثل هو الرقمنة الشاملة لمنظومة الدعم وصندوق التعويض والضرب بقوة على أيدي كل من يحاول تعطيل مسار الرقمنة من داخل الإدارة وأجهزة الدولة. كما أن تشديد الرقابة وتطوير أساليبها وآلياتها وكذلك مزيد تشديد العقاب والتخلي عن العقوبات المالية البسيطة وعدم تمكين المتورطين من أيّة ظروف تخفيف أثناء المحاكمة من شأنه أن يساهم في الحد من ظاهرة التمعش من منظومة الدعم والتقليص من كل أشكال الفساد والسمسرة والاحتكار والمضاربة في باقي القطاعات الأخرى التي تهمّ قوت التونسيين. فاضل الطياشي