في بداية عملية السطو الممنهجة على فلسطين شعبا وأرضا وتاريخا، بنى الصهاينة سرديتهم على أن «فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»... وعلى أن فلسطين هي «أرض الميعاد»... وتحت هذه الشعارات الكاذبة والمخادعة انطلقت عملية سطو لم يشهد الدهر لها مثيلا... عملية سطو على وطن وعلى تاريخ شعب... وعملية اقتلاع شعب من أرضه وزرع غرباء مكانه... غرباء استقدموا من كل أصقاع الدنيا ليستوطنوا على أنقاض وعلى جماجم شعب ظلّ على مدى 75 عاما يتأرجح بين التقتيل والترويع وبين اغتصاب الأراضي والتهجير. ورغم أن الشعب الفلسطيني الأبي أبان عن قدرات خارقة على الصمود وعلى التشبث بأرضه وبمقدساته، فإن المشروع الصهيوني حقق اختراقات مهمة مستفيدا من طبقة سياسية فلسطينية رخوة وقبلت بأن تكون على ذمة المشروع الصهيوني... ومستفيدا كذلك من جوار عربي باع القضية وقبض الأثمان... ومن غرب أعمت عيون مسؤوليه الصهيونية العالمية فلم يعد يرى إلا بعيون الصهاينة ولم يعد يسمع إلا بآذانهم... ووسط هذا المشهد ظن الصهاينة أن الأمور قد استتبت لهم فباتوا يتطلعون إلى ما بعد فلسطين... لقد باتوا يتطلعون إلى إنجاز «حلم» إسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات... خاصة بعد تهافت العرب على مصيدة التطبيع وبعد دخول أمريكا على الخط بمشروع طريق الهند أوروبا لإجهاض طريق الحرير الصيني... وما يقتضيه ذلك من تسريع في وضع اليد على قطاع غزة... ليلتقي المشروع الأمريكي بالمشروع الصهيوني في لحظة تاريخية مجنونة هلّل لها نتنياهو وتراقص طربا في الأممالمتحدة وهو يعرض الخريطة الجديدة للشرق الأوسط وفي القلب منها مشروع الطريق الأمريكية ومشروع إسرائيل الكبرى الذي تلقى بالمناسبة دفعة لم يكن الصهاينة يحلمون بها. لكن حساب البندر لم يوافق حساب الحقل... حيث جاء «طوفان الأقصى» ليسقط كل الحسابات... بل وليضع الكيان الصهيوني على شفير انهيار شامل ومدوّ تراكمت نذره وشواهده... وعلى حافة نهاية مدوية للمشروع الصهيوني فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في غزة في قهر «الجيش الذي لا يقهر» وجرّعته على مدى أشهر الطوفان مرارة الهزيمة وذلّ الانكسار... أما تطورات الجبهة الشمالية المقابلة للجنوب اللبناني فقد عرّت زيف أكذوبة الردع الصهيونية وعرّت عجز هذا الكيان رغم الدعم الأمريكي الغربي المطلق عسكريا وماديا عن حماية قطعان مستوطنيه وتثبيتهم في أرض بات يتحكم فيها حزب الله اللبناني كما بات يتحكّم في مساحات أبعد منها بكثير داخل الأراضي الفلسطينيةالمحتلة... ولأن المآسي لا تنزل فرادى فقد نزلت على الكيان نتيجة هذه الأوضاع «أم المآسي» ممثلة في الهجرة العكسية.. فعلاوة على أن غلاف غزة وشمال الكيان باتا تحت حكم المقاومة الفلسطينية واللبنانية، فإن مئات الآلاف من قطعان المستوطنين باتوا يحزمون حقائبهم ويرحلون في رحلة العودة من حيث أتوا... طالما أن المشروع الاستيطاني قد سقط وأن حياة الرخاء في فلسطينالمحتلة تحوّلت إلى جحيم لا يطاق وإلى مغامرة غير محسوبة العواقب. وعند هذه النقطة انكشفت كل الأكاذيب الصهيونية وسقطت معها السردية المؤسسة لوجود الصهاينة على أرض فلسطين ،سردية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» وكذلك سردية «أرض الميعاد» فكيف يترك الصهاينة «أرضهم المزعومة» ويهربون في هجرة عكسية ستقوض الكيان من أساسه؟ وكيف يتركون «أرضا موعودة» وبالتالي مقدسة ويحزمون حقائبهم ويرحلون في رحلة بلا عودة؟ إنه النصر الكبير الذي حققه «طوفان الأقصى».. نصر سيكلل على مدى قريب بتقويض بيت العنكبوت وبعودة الحق إلى أصحابه وبعودة فلسطين إلى الفلسطينيين. عبد الحميد الرياحي