اختراق الأمن الإيراني والشرعية الدولية للردّ العسكري منذ انطلاق العدوان على غزّة وعملية طوفان الأقصى سنة 2023 لم تفوّت إسرائيل أيّ موقف لتأكيد أنّ إيران العدوّ الرئيسي في هذه الحرب، فطالما حمّلتها مسؤولية أحداث السابع من أكتوبر بصورة غير مباشرة أو مباشرة، وعلى هذا الأساس هيّأت تل أبيب الذرائع لأيّ استهداف عسكريّ محتمل قد تقوم به ضدّ إيران، ممّا جعل المجتمع الدولي بدوره متهيّئا لهجمات ضدّ طهران ومصالحها، وهو ما وقع عند مهاجمة القنصلية الإيرانية بدمشق في شهر أفريل سنة 2024، ممّا أدّى إلى مقتل قائدين بارزين في كلّ من الحرس الثوري وفيلق القدس وهما محمد رضا زاهدي ومحمد حاج رحيمي إلى جانب مستشارين عسكريين إيرانيين دعما الحكومة السورية في الصراع السوري. وقد اندفعت إيران بموجب هذا الهجوم إلى القيام بعملية الوعد الصادق 1 في تاريخ 13 أفريل 2024 مبرّرة بأنّ هذه الضربة الصاروخية هي ردّ على عمل عدائيّ ينتهك القانون الدولي، لكن رغم سرعة الردّ على استهداف مقرّ القنصلية فقد تتالت القراءات لتصبّ في خانة أنّ هذه الرشقة الصاروخية كانت شكلية ولم ترتق إلى أن تكون ردّا حاسما في مستوى ما توعّد به السفير الإيرانيبسوريا حسين أكبري، ومع التوغّل البرّي والهجوم الإسرائيلي على الجنوباللبناني واغتيال حسن نصر الله وعدد من قادة الحزب والحرس الثوري وعلى رأسهم عباس نيلفروشان، كرّرت إيران عملية الوعد الصادق 2 في بداية شهر أكتوبر من سنه 2024 عبر قصف إسرائيل ب 250 صاروخا ومسيّرة استهدفت تل أبيب ولم تتجاوز كذلك هذه الضربة صفة المحدودية. بمجرّد قيام إيران بعملية الوعد الصادق 2 لاحت لبنيامين نتنياهو فرصة جديدة لتوسيع الصراع الذي كان ينتظره، وبناء عليه سارع بتاريخ 26 أكتوبر إلى شنّ ضربات على العاصمة الإيرانيةطهران تحت مسمّى عمليه "أيّام التوبة"، وكان هدف هذه العملية هو دفع إيران إلى الانزلاق نحو مزيد من الأعمال العسكرية، ومن الغريب أنّ هذه العمليّة سبقها تسريب لوثيقتين استخباريتين من وكالة الأمن القومي الأمريكية والوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية على تطبيق تيليغرام تتعلّق بخطط إسرائيل للردّ على الهجمات الإيرانيّة التي حدثت في الأوّل من أكتوبر، ما اعتبره كثيرون بمثابة البروباغندا التي تهدف إلى استفزاز إيران في حال أرادت الردّ في ما بعد من داخل إطار سياسة ضبط النفس عبر عملية محدودة، وإذا كان هذا التحليل سليما فإنّ المسعى الإسرائيلي إلى توسيع الصراع قد باء بالفشل نظرا إلى أنّ إيران لم تحد في ردّها عمّا سبق من حيث الشكل الذي وصف في كلّ مرّة بالباهت. استمرّت المحاولات الإسرائيلية لجرّ إيران نحو حرب واسعة حتى تاريخ انسحاب الولايات المتّحدة الأمريكية من المفاوضات مع طهران في عمان، وهي اللّحظة التي أعلنت فيها واشنطن بطريقة غير مباشرة عن إيقافها للمساعي الدبلوماسية الرامية للتوصّل إلى اتّفاق بشأن الملفّ النووي الإيراني فاسحة بذلك المجال أمام إسرائيل للقيام بأعمال عسكرية قد تجبر إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات بطريقة تكون فيها أكثر إذعانا وانصياعا لرغبات واشنطن، وهو ما لم تتأخّر إسرائيل في القيام به حيث أنّ الساعات الأولى ليوم 13 من شهر جوان حملت معها الضربات الإسرائيلية ضدّ إيران سواء كان ذلك من الداخل عبر اختراق استخباراتي وأمني واضح وغير مسبوق أو عبر ضربات جوّية واسعة النطاق على نقاط حسّاسة استهدفت العمق الإيراني. تبيّن عمق وحجم الاختراق الإسرائيلي الواضح للداخل الإيراني منذ بداية الأعمال العسكرية في ما يسمّى بعملية "الأسد الصاعد" التي وصلت تل أبيب من خلالها إلى القيادات العسكرية والسياسية العليا ومواقع البحوث والتخصيب النوويّة والكوادر العلمية في الملفّ النووي الإيراني واستهدافهم بشكل متزامن ودقيق، فقد تمكّنت إسرائيل من اغتيال قائد الحرس الثوري حسين سلامي ورئيس هيئة الأركان العامّة للقوات المسلّحة الإيرانية محمد باقري وغلام علي رشيد قائد مقرّ خاتم الأنبياء المركزي إلى جانب رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي ورئيس الاستخبارات للقوة الجو-فضائية بالحرس الثوري ونائبه بالإضافة إلى رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي، وتمثّل هذه القيادات إلى جانب قيادات أخرى تصنّف على أنّها كوادر الصفّ الأوّل للقوات الإيرانية سواء كان في الجيش الإيراني أو في الحرس الثوري، وفي إطار الاختراق الاستخباراتي تمكّنت إسرائيل كذلك من اغتيال كلّ من مساعد رئيس هيئة الأركان العامّة لشؤون الاستخبارات الإيرانيّة غلام رضا محاربي ورئيس استخبارات الحرس الثوري محمد كاظمي ونائبه حسن محقق، وتجاوزت تل أبيب اغتيال القيادات العسكرية والاستخباراتية إلى استهداف قيادات سياسية بارزة على غرار مستشار المرشد الأعلى، إلى جانب اغتيال 9 علماء نوويّين من أبرز الكوادر العلمية في الملفّ النووي الإيراني بالإضافة إلى خبراء في الهندسة الكيماوية وهندسة المواد وفيزياء المفاعلات النووية دون أن تُغفل إسرائيل ضرب مواقع عسكرية ونووية على غرار منشأة نطنز. لم يدرك نتنياهو أنّ محاولاته المتكرّرة من أجل إدخال إيران إلى صراع مباشر معه وذلك خدمة لغاياته المتعلّقة بتوسيع إطار الحرب قد أضعفت من زخم أهدافه وتأثيرها على الصعيد الدولي لأنّ إيران نجحت وفقا لتوازنات إقليمية ودولية في كسب دعم العديد من الدول التي ترى بأنّ إسرائيل قد اعتدت على السيادة الإيرانيّة وأنّها انتهكت القانون الدولي، بل إنّ إيران رغم وطأة الخسائر التي تكبّدتها نجحت في إخماد بعض الأصوات المدافعة بصفة مطلقة أو محدودة عن مشروعيّة ما تقوم به إسرائيل، ولقد كان حجم الضربات التي تلقّتها إيران ونجاح طهران في إبقاء نظامها السياسي قائما رغم محاولات الانقلاب التي كانت تحاك من الداخل سببا لتغيير إيران لاستراتيجية الضربات المحدودة التي تعتمد على قوّة نسبية مستعملة عند ضرب أهداف في الداخل الإسرائيلي، وبمجرّد خروج ترامب وإعلانه عن مهلة لا تتجاوز 14 يوما لإنهاء إيران عملياتها العسكرية ضدّ إسرائيل بدأت طهران مباشرة بعد التقاط هذه الرسالة الضمنية بمضاعفة منسوب القوّة في الضربات الجوّية والصاروخية التي وجّهتها وهو الأمر الذي لاحظه الجميع عبر إدخال أسلحة جديدة أكثر قدرة على التدمير أنتجت مشاهد غير معتادة من الدمار في مدن الداخل الإسرائيلي وكبّدت الكيان خسائر فادحة على جميع المستويات. أدّت مشاهد الكشف عن عملاء الموساد الإسرائيلي في الداخل الإيراني وعمق استباحة سيادتها والإيقاع بعدد هامّ منهم أثناء بداية الهجمة الإسرائيلية فضلا عن فشل المحاولة الانقلابية للإطاحة بنظام المرشد الأعلى علي خامنئي الكثير من الدول الحليفة لتل أبيب إلى تقبّل مشاهد الدمار التي أحدثتها الهجمات الإيرانية، وذلك في إطار توازن القوّة والضرر الذي تفرضه شرعيّة الحقّ الإيراني في الردّ على الاعتداءات التي تلقّتها طهران، وقد كانت 10 أيّام مدّة كافية لانقضاء هذه الشرعية بنظر الإدارة السياسيّة الأمريكية والتي كانت ترتئي ضرورة تدخّلها المباشر مع حليفتها ضدّ إيران، الأمر الذي في صورة حدوثه يكون بذلك نتنياهو قد توصّل إلى غايته المنشودة والتي تخدم أولوياته الذاتية، لكن القيادة العسكرية الأمريكية كان لها رأي آخر أجبر القيادة السياسية في واشنطن على تغيير جزئي في المواقف بشكل أصبح التدخّل الأمريكي لا يخدم أولويات رئيس الحكومة الإسرائيلية. - المرونة في صناعة القرار العسكري الأمريكي بين أهداف القيادة العسكرية وأهداف القيادة السياسية: منذ خمسينيات القرن الماضي استقرّت السياسات الأمريكية على الدعم المطلق للكيان الصهيوني وذلك لعديد الاعتبارات المتعلّقة بالمصالح الأمريكيّة بالمنطقة أو المتعلّقة بإرادة اللّوبي الصهيوني في دوائر صناعة القرار الأمريكية، وباستثناء العدوان الثلاثي لم تدخل إسرائيل معركة أو حربا إلاّ كانت الولايات المتّحدة الأمريكية حاضرة ومتواجدة فعليا كداعم رئيسيّ سواء في حرب سنة 1973 أو حتى في الغزو الإسرائيلي لجنوبلبنان سنة 1982 أو ما بعد ذلك، إذ لم يكن على كاهل الولايات المتّحدة الأمريكية منذ بداية علاقاتها مع الكيان الصهيوني أيّ تعقيدات قد تترتّب عن دعمه المطلق وذلك حتى تاريخ بدء الصراع في سوريا بعد 2011 وبداية تواجد الدبّ الروسي كفاعل قويّ في المنطقة، وهو العامل الذي زاد من تعقيد حسابات الخارجية الأمريكية والبنتاغون عند اتّحاذ صنّاع وأصحاب القرار الأمريكي خطوة جديدة لدعم الكيان الصهيوني. لم تتخلّف واشنطن عن النزول بكامل ثقلها لتعزيز قدرات ومواقف إسرائيل وذلك على المستوى العسكري والتقني والقانون الدولي بل وحتى على مستوى الضغوطات السياسيّة الدولية التي كانت تمارسها الإدارة الأمريكية دون هوادة من أجل مصالح تل أبيب وسياساتها في الداخل المحتلّ أو ضمن الإقليم. على المستوى العسكري قدّمت واشنطن خلال الصراعات التي خاضتها إسرائيل كلّ الدعم المالي والتقني فقد مكّنت الولايات المتّحدة الأمريكية حليفتها من منظومات دفاعية حسّاسة كمنظومة باتريوت ومنظومة ثاد إلى جانب التعاون المشترك في صناعة وتطوير منظومة القبّة الحديدية، أيضا قامت بمدّ إسرائيل بعتاد عسكريّ للاستعمالات البرّية والجوّية على غرار مدرّعات وطائرات حديثة ومتطوّرة كان آخرها طائرة أف 35، لكن رغم هذا الدعم المطلق كانت الولايات المتّحدة الأمريكية تحتفظ بعديد التقنيات المتطوّرة لنفسها والتي لم تقدّمها حتى لإسرائيل وذلك على غرار طائرة أف 22 رابتور وأف 117 وقنابل ضدّ التحصينات على غرار قنبلة GBU57، ويعكس احتفاظ الولايات المتّحدة الأمريكية بعديد التقنيات العسكرية التي من الممكن أن تحتاجها إسرائيل دون أن تمدّها بها مدى إدراك القيادة العسكرية الأمريكية والقيادة السياسية إمكانية استعمال إسرائيل لهذه التقنيات في إطار أهداف قد تتعارض مع أهداف الولايات المتّحدة الأمريكية ومصالحها وحساباتها وهي نقطة لابدّ من أخذها بعين الاعتبار نظرا لأهمّيتها ومفصلتيّها خلال الصراع الذي دار بين إسرائيل وإيران. لم تقتصر الولايات المتّحدة الأمريكية على دعم إسرائيل على المستوى العسكري فقط بل تجاوزته إلى عديد المجالات الأخرى وعلى رأسها مجال القانون الدولي إذ استعملت حقّ النقض لصالح إسرائيل في أكثر من 40 مناسبة من جملة 83 مرّة استعملته واشنطن صلب مجلس الأمن الدولي، وقد كان آخر استعمالات هذه الآلية أثناء مناقشة قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المقاومة في غزّة وذلك تماشيا مع تعهّدات القيادة السياسية مع اللّوبيات الصهيونية في أروقة البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي، بل إنّ الدعم الأمريكي بلغ حدّ الدفاع عن إسرائيل ومحاولة تحصينها إزاء إجراءات محكمة الجنايات الدولية والتي جاءت على إثر قيام جنوب أفريقيا بإثارة دعاوى تتعلّق بانتهاك القانون الدولي الإنساني والقيام بجرائم حرب وإبادة ارتكبتها إسرائيل في غزة، إذ أنّ إصدار هذه المحكمة مذكّرتي اعتقال بحقّ كلّ من نتنياهو وغالانت قوبل برفض قاطع من قبل إدارة جو بايدن بل تصاعد الر فض ليبلغ الأمر تهديد المدّعي العام للمحكمة وأفراد عائلته وقضاة هيأتها. ويلاحظ أنّ الدعم الأمريكي للكيان في كلّ المراحل والمجالات كان يحظى بتوافق بين القيادة السياسية والعسكرية على الوسائل والأهداف إلاّ في ما ندر من حالات حيث لم تر القيادة العسكرية مصلحة في تقديم دعم عسكري للكيان بالشكل الذي تراه القيادة السياسية ولكن غياب هذا التوافق لم يكن ملحوظا سابقا بشكل جليّ، ومع الحالة التي تميّزت بها هذه الحرب لم تكن القيادة العسكرية لترجّح الاعتماد على خيار الانخراط في الأعمال الإسرائيلية العسكرية بالشكل الذي قد يطلبه ترامب وإدارته واللوبيات الصهيونية المحيطة به، حيث كان لدونالد أجندات تفرضها عليه تعهّداته مع منظّمة إيباك ومثيلاتها والتي تقتضي وقوفه إلى جانب إسرائيل في الحرب عبر تنفيذ ضربات عسكرية فعلية تقضي على القدرات الإيرانية وتحسم استمرارية قيام نظام المرشد الأعلى. ومقارنة بأهداف القيادة السياسيّة الأمريكية خلال الصراع الأخير فإنّ القيادة العسكرية كانت أكثر واقعيّة وإدراكا للآثار التي يمكن أن تترتّب عن الدخول المباشر في هذه الحرب على ضوء الأهداف التي يرجوها نتنياهو، ما قد يصيب المصالح الأمريكية الاستراتيجية العليا بعيدة المدى بنكسة تضعف موقفها الاستراتيجي في صراعات مستقبلية أو في ملفّات دولية مفتوحة اليوم، هذا وإنّ أمرين أساسيّين يمثلان مصدر مخاوف لقيادة الأركان المشتركة الأمريكية، أوّلهما هو أنّ أيّ رسالة قد تصل إلى الصين أو روسيا تفيد بتوفّر نية لدى واشنطن تسعى بها إلى القضاء النهائي والكلّي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد تدفع بيكين وموسكو إلى اتّخاذ مواقف أو قرارات حازمة قد تتطوّر إلى صراع مباشر مع واشنطن في الوقت الذي يعي فيه البنتاغون أنّ ذلك سابق لأوانه في ظلّ عدم توفّر ظروف مواتية لحسم الصراع لصالح الولايات المتّحدة، والأمر هنا مشابه لمثال تتوجّه فيه روسيا في هذا الوقت إلى ضرب ألمانيا أو فرنسا أو تركيا ضربة قاضية تدفع واشنطن للردّ، وثاني المخاوف التي قد تؤرق حسابات القيادة العسكرية الأمريكية فتتعلّق بحالة انهيار النظام في إيران دون أن يدفع ذلك الصين أو روسيا للتدخّل بصورة مباشرة على خطّ الصراع، ما يفرض على الولايات المتّحدة عندها التعامل مع جزئيات معقّدة تتعلّق بالبديل السياسي لنظام المرشد وما إذا كانت إيران ستنزلق إلى مربّع الفوضى الذي قد يضعها خارج سيطرة واشنطن، بل حتى مخاطر سقوط تكنولوجيات صاروخية أو نووية في أيدي مجموعات متطرّفة تتناقض مصالحها مع السياسة الأمريكية.