حين تتصدّر مشاهد الأطفال الغارقين في الجوع شاشات العالم بعيون جافّة من الدمع، وبطون خاوية كأنها تنادي الموت ليأتيها مسرعا ، تصير الكلمات عاجزة، ويتحول عجزها الى جريمة . فما يجري اليوم في غزة ليس حصارا عابرا، بل سياسة تجويع ممنهحة مدروسة، من كيان غاشم احترف الظلم والتعذيب، وبأنظمة عربية تدفن صوتها في رمال الخوف والمصالح.. آلاف الجرحى بلا دواء، عشرات الآلاف من المشردين بلا مأوى، ومئات الآلاف تحت الحصار يتهافتون على الفتات وعلى الصبر.. أطفال غزة يموتون جوعًا، كهول يسقطون على أبواب المخابز وفي طوابير المساعدات ، وعائلات تُقصف وهي تنتظر شاحنة إغاثة قد لا تصل أبدًا لتكتب صفحات جديدة من الألم والخذلان، ودموع لا تتوقف. المنظمات الدولية تطلق صرخة فزع في وجه جريمة التجويع، مذعورة من مشاهد البطون الخاوية والوجوه الذابلة، مستنكرة هذا العقاب الجماعي الذي يحوّل الخبز إلى سلاح، والمجاعة إلى حصار خفيّ يفتك بالأبرياء بصمت، والعالم صامت ..في أي عصرٍ هذا نعيش؟ وأي وجدان هذا الذي لا يهتز؟ أسئلة تُطرَح بصوتٍ عالٍ في الشارع العربي، بينما في قصور الحكام، يُلقى عليها الصمت المذهّب. هل باتت السيادة الوهمية أغلى من الحياة؟ وهل أصبحت الكراسي أهم من أرواح الأطفال؟ هل تحولت ألسنة الحكام النتنة الى ادوات صمت وتجويع ... من يُبقي المعابر مغلقة؟ من يمنع شاحنات الغذاء؟ من لا يستخدم أوراق الضغط التي يملكها؟ أليس من العار أن تملك دولٌ عربية كل مفاتيح المساعدة، ثم تختار ألا تُديرها؟ إن من يملك القمح والماء والكهرباء، ويمنعها عن غزّة، هو شريك في الجريمة، مهما كانت المبرّرات والذرائع، ومهما اتخذ من مواقف رسمية باردة، تتوارى خلفها حياة الملايين. أين الأنظمة التي تُفاخر بالسيادة وتلوّح بالعروبة؟ لماذا لا تتحرّك لفتح المعابر؟ لماذا لا تُعلن العصيان العالمي وتكسر الحصار بقرار سيادي؟ أم أن "الشرعية الدولية" تُستعمل فقط حين يتعلق الأمر بمصالحهم، وعندما يُباد شعب بأكمله، يصبح السكوت حكمة، والتخاذل سياسة؟. غزة يا قتلة الأبرياء لا تطلب معجزة... تطلب فقط أن تعيش. أن يأكل أبناؤها، أن يرتوي أطفالها من ماء نظيف، أن لا يكون الحليب ترفًا في عالمٍ يسكنه الجوع. أن لا يُقتل الإنسان مرتين: مرة بالقصف، ومرة بالإهمال والصمت..عفوا ومرة ثالثة بألسنة التواطؤ. نُدين الاحتلال الغاشم صباحا مساء ويوم الاحد ، نعم ، لكننا قبله وبعده والى يوم الدين نُدين من يُقايض الدم بالصمت، ومن يضع كرامة الأمة في ملف مؤجل.. نُدين كل من شاهد الموت ولم يتحرك، كل من رآه وتجاهل سكرات الموت، وكل من اختار أن يُصبح مشاهدًا صامتًا في مأساة تكتب صفحاتها أنامل القهر والخذلان. غزة اليوم ليست مأساة فقط، بل مقياس شرف، واختبار ضمير، فالشعوب العربية المسلّمة حيّة، والشارع يغلي، أما الحكّام فبين متواطئ وصامت ومُنهزم. وما بين هذا وذاك، تظل غزة تكتب أسماء من وقف معها، وأسماء من تركها وحيدة تموت...لكنها لن تموت.. غزة لا تجوع بصمت... غزة تفضح خذلانهم وذلهم بصوت عال.. راشد شعور