لقد أثار انتباهي مقال السيد جمال الدين الكرماوي المنشور بتاريخ 29 أكتوبر 2003 بعنوان «مرارة المرور» وقد استفزّ فيّ محتواه أسئلة وخواطر حول الموضوع الذي خاض فيه وهو معضلة حركة المرور بتونس الحاضرة. حقا وفّق كاتب المقال الى حدّ كبير في تناوله لهذه القضية المستعصية وتصويره للمعاناة التي يكابدها كلّ من أراد دخول العاصمة أو قطعها لغاية ما من شمالها إلى جنوبها أو من جنوبها إلى شمالها. غير أن كاتبنا لم يحالفه الصواب حتى قاده التحليل الى الفصل بين فيضان المياه والفيضان المروري. فكلاهما وثيق الصلة بالآخر وكلاهما تسبّب فيه شيء واحد ألا وهو : التهيئة الترابية. إنّ ما يحدث اليوم بالعاصمة من اختناق في حركة السير كان متوقّعا منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات عندما بدأت المدينة تتّسع وتتوسّع في اتجاه واحد وهو الشمال لتبرز أحياء كبيرة كالمنازه والمنار ونسينا أن عاصمة بلادنا مثل أغلب عواصم العالم هي مقصد المواطنين القادمين من جميع المداخل والاتجاهات وتناسينا موقعها الجغرافي الذي وضعها في الربع الشمالي من الجمهورية الشيء الذي جعل ثلاثة أرباع القادمين إليها يأتونها من الجنوب (أي جنوب العاصمة) لقضاء شؤون مرتبطة أساسا بمركزية الإدارة حيث من الطبيعي أن تطفو مشاكل الحركة المرورية خاصة وقد أصبحت الآن محصورة بين البحر شرقا وسبخة السيجوم غربا. لقد تساءل صاحب المقال قائلا : هل بلغت طاقة استيعاب العاصمة أقصاها؟ والإجابة مع الأسف نعم نعم رغم تواضع عدد سكّانها مقارنة بنظيراتها من عواصم العالم، فكيف الحل يا ترى؟ وكيف الخروج من عنق الزجاجة ولازالت المدينة تتمدّد بسرعة كبيرة شمالا وبأقل سرعة جنوبا، فهل نواصل بناء المحولات والطرقات المعلّقة المكلفة أحيانا لتحل المشكلة وقتيا لتتجاوزها الأحداث في مدّة قصيرة؟ هل نغامر بفتح أنفاق تحت الأرض وهذا يعدّ ضربا من ضروب الخيال باعتبار خصوصية طبقاته الجيولوجية وباعتبار تكلفتها المرتفعة جدا. لكن أرى الأنسب والأجدر في نظري والذي يفرض نفسه بقوّة وهو الحلّ الاستشرافي وخاصة أن سيادة الرئيس علّمنا كيف نتهيّأ لمواعيد الغد وكيف نضرب لأنفسنا مواعيد مع التاريخ وهذا الحلّ وأن يبدو نظريا لدى البعض وطموحا جدا لدى البعض الآخر لكنّه ليس بالمستحيل. هذا الحلّ يكمن في إرساء نواة لتأسيس عاصمة جديدة جنوب غربي العاصمة ومنفصلة عن الأولى يخطّط لها من الآن لتأوي المليونين ونصف المليون ساكن الذين سيضافون إلى العاصمة الحالية آفاق 2050 عاصمة متّسعة الشوارع والأنهج يراعى في تهيئتها الحداثة والجمالية والذوق الرّفيع وتتوسّطها المباني الإدارية الشاهقة والمؤسّسات المالية مرورا بالأحياء السكنية ومحاطة بالطرقات السيارة وعلى جانبيها المناطق الصناعية المتطورة من ناحية والمراكز التجارية الكبرى من ناحية أخرى. وتبقى العاصمة الحالية على غرار اسطنبول وعديد المدن الأوروبية الكبرى قبلة للسواح ومكانا للنزهة والترفيه.