مرّت السّرعة من درجاتها الدنيا إلى المقاس الرابع أو الخامس ومثّلت مناقشة ميزانية الدولة فرصة تأكد من خلالها التناغم بين الحكومة ومختلف الأحزاب البرلمانية بالسعي من أجل تجسيد الرغبة الرئاسية في تطوير المشهد السياسي والاعلامي الوطني والدخول بالبلاد في مرحلة جديدة أكثر تعددية وأكثر ديمقراطية. وفي الحقيقة جاء الخطاب الحكومي مُبرزا عزما على المضي قدما في تكريس الاصلاحات ومزيد الانفتاح على مكونات المجتمع من أحزاب ومنظمات وجمعيات أملا في أن تتحقق للمرحلة القادمة المزيد من الضمانات لتوفير نجاحات أخرى للبلاد وتنضاف إلى الرصيد الهائل من المكاسب التي تحقّقت في السنوات الأخيرة سواء في الميادين الاقتصادية والاجتماعية وفي المجالات السياسية المرتبطة بالمشاركة وفتح الآفاق أمام المجال العمومي والشعبي للتواجد في مواقع الاستشارة والتصورات والقرار. انتظار ولئن لا يخفي عدد من المهتمين بالمشهد السياسي الوطني وجود حالة من الانتظار والترقّب لدى أغلب الأحزاب والتنظيمات والنخب الفكرية والسياسية الى ما يمكن أن تطرحه السلطة من مبادرات في اتجاه تنفيذ اصلاحات جديدة تساهم في تجسيد ما ورد في الخطاب الرئاسي من دعم للمعارضة وتعزيز مساهمة مختلف فعاليات المجتمع في المرايا الوطنية، فإن نفس هؤلاء ينظرون بنفس الدرجة الى ما يمكن أن تعمد إليه الأحزاب والنخب من تحركات وأنشطة تدعم الجهد الحكومي وتعبّر عن تطلعات الشارع التونسي للفترة القادمة وتكرّس التوافق والإجماع الحاصل حول الدفع بالبلاد إلى استحقاقات جديدة واعدة. تفعيل ومساهمة ولا تخرج السيناريوهات التي يمكن أن تنخرط فيها مختلف مكونات المشهد السياسي والمجتمعي عن تفعيل دور الهياكل الموجودة ورصّ صفوفها وتعزيز التلاح بين أفرادها ويؤكد مطلعون على أوضاع أحزاب المعارضة بصفة خاصة أن أولى الخطوات التي يجب أن تمارس من المكاتب السياسية والمجالس الوطنية وحتى المؤتمرات المنتظر حصولها في الثلاثية الأولى من العام الجديد هي العمل على إيجاد تمثيلية حزبية صحيحة تقتضي القط النهائي مع سياسات الاقصاء والطرد والتهميش بما يتطلبه ذلك من فتح باب العودة الى كل المناضلين والكفاءات التي وقع الاستغناء عنها في فترات سابقة أو أجبرت بحكم تردّي الممارسة السياسية لبعض القيادات على الاستقالة والابتعاد عن الحراك السياسي والحزبي. أجنحة متكسّرة إن دخول أحزاب المعارضة لمرحلة جديدة لا يمكن أن يكون بأجنحة متكسّرة ولا بكأس فارغة إنما يستلزم الوضع الجديد إعادة التفكير في منهجية حزبية ثابتة تتيح للآراء المختلفة أن تتعايش تحت السقف الواحد وتمنح الأيادي المرتعشة حق المصافحة والترابط بأكثر ثقة واعتدال، ولم يعد خافيا حجم الخسائر التي تكبّدتها جلّ أحزاب المعارضة خلال العشرية الأخيرة وحتى قبلها والتي حوّلتها بمناسبة كل موعد انتخابي حزبي أو وطني الى ساحة للعراك والخصام. إن إعادة تجميع كل القوى الحزبية ووضع تصوّرات جماعية موحدة للاستحقاقات القادمة داخل كل حزب سياسي هو المنفذ الأساسي لإيجاد حركية ممتدة في المكان والزمان، مترابطة مع مشاغل المواطنين اليومية دون أن تغفل احتياجات المستقبل من قراءات وتحاليل واستشرافات. كما يظلّ الملف الاداري والمالي من أوكد الملفات التي يجب أن تعالج في اطار وفاقي عبر إقرار المزيد من الشفافية والوضوح حتى ينتهي التعامل الحالي معه والذي كثيرا ما رشحت منه أخبار غير جيدة وصلت حدّ المحاكم والقضايا العدلية. استحقاقات وبثنائية التجميع والشفافية سيكون بإمكان أحزاب المعارضة أن تدخل الاستحقاقات القادمة بأكثر صلابة وقدرة على المساهمة الحقيقية في رفع التحديات التي من المنتظر أن تواجه عددا من القطاعات والميادين على الساحة الوطنية. ولا بدّ لأحزاب المعارضة أن تحرّك في اطار ممارسات تلك كل قدراتها التنظيمية والاعلامية لاكتساح كل الميادين ومزيد الارتباط بمشاغل المواطنين والتعبير عن مختلف الرؤى التي تملأ الفضاءات العمومية من كليات وجامعات واتحادات ونقابات وجمعيات ودور ثقافة ونوادي فكر وأدب وفن.. ولا شك أن طرح العناوين الصحفية ودفعها الى التواجد بالأكشاك سيظلّ أساسيا في مثل هذه المرحلة إذ لم يعد من المسكوت عنه أن يتواصل الحضور المتواضع لصحافة المعارضة والرأي في المشهد الاعلامي الوطني برغم التشجيعات الموجودة والدعم العمومي المقدم سنويا والضمانات الرئاسية بالانفتاح وتحرير الاعلام من كل القيود، ومادامت لكل الاحزاب عناوينها فإن الضرورة ملحة الآن قبل غد أن يُعاد إصدارها لمعاضدة الانتعاشة الاعلامية التي عرفتها الصحف الوطنية ومختلف وسائل الاعلام بمناسبة التغطية الأخيرة لمداولات ميزانية الدولة. نخب وعلى النخب في هذا المشهد الجديد أن تتنازل عن «الربوة» وأن تدلي بدلوها عبر الفضاءات المتاحة ولمَ لا المساهمة بإحداث وابتكار فضاءات جديدة من قبيل المنتديات والنوادي والجمعيات بما يُرسخ حق الممارسة والمساهمة لكل الفئات وبالتواجد المستمر والمكثف عبر القنوات الاعلامية المختلفة من صحف ومجلات ونشريات وبرامج تلفزية وإذاعية لتقديم شكل ومحتوى جديد للجدل السياسي والفكري التونسي والارتقاء باهتماماته الى مستوى الاهتمامات الوطنية والدولية الراهنة. مبادرة إن انتظار ماذا عسى السلطة أن تفعل لم يعد كافيا إذ لا بدّ من أن يقتنع الجميع أن الخدمة والسعي الى التطوير والتطور يقتضيان كذلك المبادرة وتفعيل كل الأشكال والأطر الموجودة بما يخدم تواصل الحركية الاعلامية والسياسية التي لم تعد خافية على أي متابع للشأن التونسي والتي ستتدعم قريبا بحكم المواعيد الانتخابية والسياسية المقبلة على غرار الانتخابات البلدية وانتخابات الغرفة البرلمانية الثانية (مجلس المستشارين) بالاضافة الى النشاطات الحزبية المبرمجة من مؤتمرات ومجالس وطنية واجتماعات دورية للهيئات والمكاتب السياسية.