1 اذا كان الكتاب بالأمس القريب بعيدا عن متناول القارئ، وكان هذا الشيء الذي سمّي «كتابا» عنوانا على ثقافة من يحمله أو يتأبّطه فإن الكتاب اليوم صار في متناول الجميع: يمكن شراء كتاب بدينار في تونس. وبأورو واحد في أوروبا. وبنصف جنيه في مصر. وهكذا يمكن للجميع دون استثناء الفقراء أن يؤسسوا مكتبة صغيرة. كل هذا غدا معقولا في عالم ازدهرت فيه الطباعة وصار من الممكن طباعة كتاب في أقل من يوم صفّا واصلاحا وطباعة وتسفيرا والحال أنه كانت مثل هذه الاعمال الخاصة بصناعة كتاب، تستغرق الأسابيع والشهور. 2 عندما صارت عملية الطباعة ميسورة للغاية. وعندما عشنا ثورة الحاسوب الذي كان الى بداية التسعينات اكتشافا عظيما وآلة لا تستطيع شراءها الا كبريات الشركات أو أضخم المؤسسات الحكومية ومع نمو متسارع لنسق الثورة الاتصالية صار الحاسوب في متناول أسرة متوسطة الدخل وآلة الطباعة في المتناول أيضا، وغدا بإمكان مواطن عادي ان يستخرج أوراقا مطبوعة وبشيء من الصبر صار بوسعه أن يضم هذه الورقات الى بعضها فيؤلّف «مؤلّفا» ويصنّف «سفرا». وصار بإمكان الطالب ان يطبع شهادة بحثه بنفسه ثم يستخرج ما شاء من النسخ على شكل كتاب فيصبح هذا الطالب الباحث مؤلفا وكاتبا مرموقا، وربما صار يحلم بالعضوية في الجمعيات التي تشابه اتحادات الكتّاب، وربما ادعى أنه بهذه الورقات التي تشبه «الكتاب» من ضمن المؤلّفين، وهذا قد يدخل في روعه ان الجاحظ والمتنبي وفولتير وطه حسين ونزار قبّاني زملاء له، فهم مؤلفون وهو أيضا مؤلف. 3 إن تبسيط وضع الكتاب على هذا النحو يجعلني أفهم طوفان الكتب التي تعمّ العالم الآن، كل العالم دون استثناء وهذا ما جعل الكتاب متوفرا بشكل متراكم كبضاعة كاسدة ولم تعد تشمل هذه الظاهرة الكتب الرديئة فقط، ذلك أن بعض الكتب الجيدة صارت في خضم هذا الطوفان تعامل مثل الكتب الرديئة، وهنا حصلت الكارثة بهذه المساواة بين الكتاب القيّم والكتاب التافه... وفي هذا الطوفان اختلط القارئ بالمؤلف، فصار القارئ مؤلّفا وصارت التآليف أكبر من طاقة القارئ، بفضل ديمقراطية التأليف وامكانية ان يصبح أي شخص مؤلفا بين عشية وضحاها بل صار بإمكان البعض في هذا الطوفان أن يسرق فصلا من كتاب وفصلا من كتاب آخر وفصلا آخر من كتاب آخر حتى يصبح لديه كتاب مؤلّف من ثلاثة فصول!!! وفي هذا الطوفان يعجز الناقد الحصيف والقارئ المتجسس على اكتشاف مصادر السرقات. وحين ينتقل شخص ما، في مثل هذه الحالة من صف القارئ الى صف الكتّاب ودون ضجيج فإنه يواصل «التأليف» الذي لا يشبه غير التزييف. هذا الوضع الطوفاني ولّد معارض دائمة للكتاب في كل مكان، انها معارض دون زحمة وعدد الذباب الطائر فوق الكتب أكبر من عدد الزائرين لأن ثقة القرّاء باتت في تناقص. 4 أما الناشرون وهم يمارسون التجارة والحضارة، فإنهم في الأصل ناس مثقفون وهم يشبهون الأحزاب في اختياراتهم الفكرية ويشبهون «النقّاد» في اختيار ما يرونه صالحا أو مفيدا، وهم يملكون لجان قراءة وفرز مهمتها النظر في النصوص الجديدة فلا تراهم يحتقرون كاتبا جديدا أو اشراقة أمل في عالم الثقافة والأدب والفكر. هؤلاء الناشرون الذين صاروا يرفضون بعض الكتابات بحجج عديدة من أبرزها أنها لا تتماشى مع سياساتهم في النشر او بحجة «الرداءة» الغالبة على التآليف والتصانيف المقدمة اليهم بقصد النشر. 5 ولكن، حين يرفض ناشر محترم نشر كتاب، فإنه لا يطمئن إلى عدم العثور عليه لاحقا في الأسواق، ذلك أنّ الكاتب سيذهب به إلى ناشر آخر، وسوف يستمع إلى الكلام نفسه حتى ييأس هذا «الكاتب» من الناشرين، فيتوكّل على قرض من أحد البنوك ويتوكّل على اللّه، ويدفع ثمن كتابه بنفسه بعنوان «النشر على الحساب الخاص» وحين يدفع المؤلف المشكوك في أمره كتابه الرديء إلى السوق، فإنه يلاقي قارئا يشبه الناشر (ذلك ان الناشر يترجم توجّها ما من توجهات الرأي العام القارئ). وهكذا تحصل خيبة الكاتب الذي يحكّ رأسه ويسوّد الأوراق ويسحب رزمة أوراق نقدية ليطبع كتابا في أسرع وقت. 6 ولعلّ الملاحظ صار يلاحظ غياب عبارة القارئ الكريم عن أغلب الكتب، كناية عن قارئ كان كريما فصار مؤلفا لئيما. 7 وصار بوسع الجميع أن يدّعي الكتابة والتأليف والبحث والتحقيق وتأليف القصص القصيرة والروايات الكبيرة طالما أن ديمقراطية الحاسوب أنتجت هذا الكم العرمرم من القراء الكرام الذين انخرطوا في غفلة من (المراقب والمحاسب/ القارئ) إلى كتّاب يبحثون عن موقع آخر لدرجة أن الكاتب الحقيقي يردّد في أعماقه ما قاله المتنبي: «أفي كلّ يوم تحت إبطي شويعر» 8 هذا دون أن نتحدث عن الحاسوب الذي بامكانه أن يفرز الصوت فيصدر النصّ مكتوبا دون أن يبذل الشخص الكاتب جهدا آخر غير الجهد الشفويّ ويصبح بهذه الفرضية عدد الكتاب في تونس بعدد السكان، مع استثناء الصمّ والبكم فقط، مع الملاحظ ان بامكان هؤلاء أن يصبحوا كتّابا أيضا. كتابا بعدد الدود. وكتب تصدر وتمرّ دون ضجيج مثل جنازة كلب.