موسيقاه المفضلة صفارة القطار وهدير عجلاته الحديدية وهوايته تصفح وجوه المسافرين وتكوين صداقات متينة مع أعوان السكك الحديدية، هو شاب على الدوام.. قلبه ينبض بحب الحياة وحب العمل.. بشاشته وتلقائيته هما جواز سفره المتاح لدخول قلب كل من يعرفه. انه السيد أحمد العمري الذي قضى قرابة 57 عاما داخل القطار باعتباره يتنقل يوميا بين الجم وتونس للعمل بالعاصمة. ورغم بلوغه سن الرابعة والسبعين إلا أنه مازال محافظا على عمله وظل وفيا لصديقه القطار الذي كان شاهدا على كل مرحلة من مراحل عمره، والسيد أحمد العمري هو أب لأربعة أبناء وهو أصيل مدينة الجم وقع تكريمه مؤخرا من قبل الشركة التونسية للسكك الحديدية. وعلى ضوء هذا التكريم التقته «الشروق» فكانت معه الدردشة التالية: * بعد 57 سنة من رفقتك للقطار هل لك أن تصف لنا علاقتك به؟ وهل شعرت يوما بالضجر من سفرك الدائم بالقطار؟ استطيع أن أقول ان القطار هو أحد أهم الأشياء في حياتي. انه صديقي ورفيقي والشاهد الوحيد على أفراحي وأحزاني إنه مثل أحد أبنائي افرح كل ما رأيت الاهتمام به يتزايد والخدمات على متنه تتحسن وأحزن إذا رأيت أحدهم قام بتهشيم نوافذه أو إذا تعرض إلى حادث لا قدر اللّه. وأكثر من ذلك انه عبارة عن منزلي الثاي الذي أحرص على نظافته وحسن مظهره. فعلاقتي بالقطار هي علاقة حب متجددة لم يعترها الفتور يوم بل ظلت قوية على مدار 57 عاما. * هل لك أن تشرح لنا طبيعة عملك؟ ولماذا تصر على التنقل بالقطار دونا عن وسائل النقل الأخرى؟ أنا أقوم بعدة أعمال متنوعة، عملت كبائع صحف متجول لبعض سنوات وكبائع ورود في القطار. وأقوم بأنشطة خدماتية أخرى تتمثل في ايصال بعض الوثائق والاعلانات إلى الجرائد وتولي مهمة استخراج بعض الوثائق بدلا عن أهل بلدتي وأساعدهم على ايصال مطالب الشغل إلى مكاتب الشغل الموجودة بالعاصمة وأجلب لهم الوثائق التي تحتوي على عروض الشغل أو عروض الزواج واطلاعهم عليها وبفضل علاقاتي المتعددة أساعد طالبي الشغل على ايجاد عمل. أما عن اصراري على التنقل بالقطار فيرجع إلى عدة أسباب منها تعوّدي على أجواء القطار. وتكويني لصداقات لم يكن من السهل التخلي عنها إلى جانب أن السفر بالقطار أكثر راحة من بقية وسائل النقل وتكلفة التنقل بالقطار على امتداد سنة كاملة أقل بكثير من الحافلة وسيارة الأجرة. * على ذكر تكلفة التنقل كم انفقت في تنقلك بين تونس والجم طيلة 57 عاما؟ انفقت ما يقارب عن 6 ملايين و700 دينار باعتبار انني اعتمد في تنقلي على بطاقة اشتراك سنوي بالقطار وتكلفة الاشتراك أقل من اقتطاعي لتذكرة سفر ذهابا وايابا بصفة يومية. * تنقلك بصفة يومية على متن القطار كل هذه المدة الزمنية من الأكيد انه أثر على حياتك وعلى علاقاتك بالمسافرين وبأعوان السكك الحديدية وسمح لك بتكوين صداقات كثيرة وذكريات لا تنسى؟ كما أشرت سابقا علاقتي بالقطار علاقة متينة جدا فعلى متنه كونت صداقات كبيرة ولا أستطيع حصر عدد الأصدقاء ولا حتى تذكر أسمائهم فهم بلغوا المئات وغيب الموت أكثرهم ومن أهم اصدقائي مديرو شركة النقل بالمهدية وتونس العاصمة، وأحمل ذكريات سعيدة وأخرى تعيسة عشتها على متن القطار مازال البعض منها راسخا في ذهني وأكثر الذكريات التي تسعدني هي المعاملة الحسنة والتقدير والاحترام الذي كنت ألقاه من كل العاملين بالشركة التونسية للسكك الحديدية، أما الآن فأعيش دون أصدقاء وكلما صعدت إلى القطار واتخذت مقعدي فيه إلا وتداهمني الذكريات بحلوها ومرها فالتزم الصمت إلى أن يصل القطار إلى المحطة. * ما هي أسوأ الذكريات التي تحتفظ بها من سفرك الدائم بالقطار؟ أسوأ الذكريات هي تلك التي تتعلق بتصادم قطارين بمدينة القلعة هذا الحادث الذي خلف العديد من الموتى والجرحى ترك في نفسي جرحا عميقا وألما دفينا لم تستطع الأيام محوه من ذاكرتي لأنني كنت شاهد عيان لهذا الحادث الأليم. * ما هي الأشياء التي تثير غضبك أثناء السفر؟ في السابق كانت الخدمات على متن القطار رديئة وكان التأخير في مواعيد سفرات القطار يتكرر بصفة مستمرة وهذا الأمر يقلقني ويساهم في تعطيل أشغالي أما الآن فقد أصبحت السفرات على متن القطار أكثر راحة ولم يعد يزعجني سوى رفض بعض المسافرين لاقتطاع تذاكرهم وبعض السلوكات المنحرفة التي يقوم بها بعض المراهقين سواء لتعطيل انطلاق القطار أو التدخين والتلفظ بكلام بذيء دون مراعاة مشاعر المسافرين. * كيف تقضي وقتك داخل القطار؟ في أغلب الأحيان يغالبني النعاس فأخلد إلى النوم وإذا صحوت أتصفح بعض الجرائد واتجاذب الحديث مع من يجلس إلى جانبي لتنطلق صداقة جديدة بيني وبينه كما أحافظ على عادة أكل القليل من الزاد المتمثل بالأساس في بعض الخبز والجبن أو «بسيسة» بالدقلة. * هل اثر استعمالك الدائم للقطار على حياتك العائلية؟ يمكن القول إن ملازمتي للقطار واحتكاكي اليومي بمئات المسافرين جعلني اجتماعيا ومتفهما لذلك أتعامل مع أولادي بكل عفوية فأنا صديقهم ووالدهم في الوقت نفسه اصارحهم ويصارحونني بكل ما يخالج صدورنا ونتناقش في كل المواضيع بكل حرية وشفافية. * وهل تعرفت على زوجتك في القطار؟ لا، فأنا متزوج من ابنة عمي، وما يجمعني بزوجتي هو الاحترام والحب والعشرة الطيبة. ولم يصادف أن أعجبت بواحدة أخرى غيرها رغم تنقلي المستمر بين الجم وتونس العاصمة ومقابلتي لهيئات الأشخاص. * وما هي أمنياتك المستقبلية؟ كل ما أتمناه هو مواصلة عملي بنفس النسق والنشاط وأن أزوج أبنائي وبناتي وأرى أحفادي أمام عيني. كما أرجو من الشركة التونسية للسكك الحديدية تمكيني من بطاقة تخول التنقل على متن القطار مجانا.