لا يعرف الكثيرون من دومينيك دوفيلبان إلا الوجه الديبلوماسي الذي شدّ إليه الأنظار في المحافل الدولية، وتحديدا في جلسات مجلس الأمن قبيل اندلاع الحرب على العراق. كان يدافع عن سياسة بلاده لا شك المعارضة لحرب لم تكن نُذرها لتخفى في ملامح المسؤولين الأمريكيين المنقبضة حينا... المكشّرة الجامدة حينا وكأنها صورة من أقنعة التراجيديا الإغريقية المدروسة بعناية فائقة... فما يكاد السيد كولن باول ينقبض... حتى تكشّر السيدة كونداليزا رايس... ويبدو أن التكشير كالتثاؤب عدوى... أو لعله قناع لا بد منه كلما مرّ السياسي للحراش أو أخذ يتنمر ويتوعّد... برغم أن التّكشير في العربية على الأقل لا يعني في كل الأحوال تقطيب الوجه مداجاة أو استياء أو تقززا... فقد يكون عند الضحك أيضا... من ذلك قولهم ؛ كاشره أي ضاحكه وكشف له عن أسنانه.. والحق أن حكام العرب إلا قلة منهم يُكَاشرون في الأعم الأغلب. ولك أن تحمل مكاشرتهم على أي وجه شئت... وحتى لا تباغت من حيث لا تدري... عَلّق حكمة المتنبيء «إذا رأيت نيوب الليث...» تميمة أو خرزة في ذاكترك إن لم تثقب بعد وقاية من العين ودفعا للأرواح... ولا تكشر أبدا... فالتكشير صناعة أمريكية خالصة لا تباع ولا تستورد... ألم تر إليهم كيف فعلوا بالرئيس العراقي؟! فقد حرموه نعمة المشاكرة... ولكن غاب عنهم أن الصورة التي أرادوا ترويجها، صورة الكائن المغلوب... وهتك سرّ العذاب الذي يمكن أن يكابده أي واحد منّا في صمت... قد تُحمل على غير ما أرادوا... وأحيلك لكي تتأكد على صورة المسيح.... فربما ليس هناك ما هو أكثر فظاعة من مشهد «ربّ» (هكذا يسوع في المعتقد المسيحي) ملطخ بالوحل وبروث البهائم، ومصلوب بين لصين مصلوبين! كما كتب جوليان المرتد الامبراطور الروماني الذي ولد في القسطنطينية عام 331 م ومات في بلاد الرافدين عام 363 م... فقد رأي في ذلك المشهد عارا لا يليق ب»ربّ» حقيقي... ولكنه نسي أن وجه المسيح المصلوب يحمل الشهادة على عذابه وعذاب الإنسان. على أني لا أقارن بين صورتين مختلفتين لا شك.. ولكن صورة الرئيس صدام حسين مهما يكن الموقف منه ومن سياسته وبغضّ النظر عمّا اقترفه أو لم يقترفه في حق شعبه، فالجرم لا يعاقب بالجرم، والذين شمتوا به وفرحوا ببليته من العرب، إنما يشهدون على أننا أمة مريضة حقّا لا أكثر ولا أقلّ تحمل عار الجلاّد المحتل ولا تحمل وجه الحاكم المغلوب في أعقاب سلطته المنهارة. *** ولأعد إلى ما أنا فيه من صورة دومينيك دوفيلبان حتى لا يحجزني التكشير عنها فقد كانت مصادفة حقا أن تلتقي سياسة الحكومة الفرنسية المعارضة للحرب، بسياسة الشّعرپ... وهما في تقديري توأمان... ولكن نادرا ما يلتقيان إلا إذا ارتضى الشاعر لنفسه مصانعة الحكام ومداهنة الأحزاب... وشتّان بين عناية الكاتب أو الشاعر بالسياسة في الأمم الحرة، وعنايته بها في عالم مثل عالمنا العربي! الحق هناك ما يشبه التقليد في الديبلوماسية الفرنسية، فقد تعاقب على دفة الحكم أكثر من مسؤول يكتب الأدب أو الشعر، فإن لم يكن من كتابه فهو من قرائه. والقائمة طويلة... ولكني أذكر على سبيل المثال اسمين أحدهما علم في الشعر الحديث هو سان جون بيرس، والآخر رئيس الدولة الأسبق جورج بومبيدو، فقد نشر «أنطولوجيا الشعر الفرنسي الحديث»... وهي مختارات تنم على ذوق فني رفيع وفطنة متمرس بهذا الفن. لا أعرف شخصيا أسباب هذا التقليد ودواعيه... على أنها فيما يتهيأ لي ذاتية بقدر ما هي موضوعية. فالفرنسي، على ما يبدو، لا يثق بالسياسي الذي لا يقرأ الأدب ولا يعرف المسرح أو السينما أو الرسم والنحت... فهذه كلها نوافذ مشرعة على الناس... والإنسان هناك... في الضفة الأخرى لم يتحوّل بعد الى صورة نموذجية Portrait robot كما هو الشأن في عالمنا نحن حيث صورة الفرد أشبه بصورة شخص مطارد، ملامحه مزيج من نماذج الهيئات المرسومة على ضوء الصفات التي أدلى بها شهودهم بدورهم صور نموذجية! فنحن وشهودنا «عبادلة» (ج. عبد الله) سواسية كأعواد الثقاب المتساندة في علبة. سمّها ما شئت إلا أن تكون وطنا... رغم أن العرب تعلموا حب الأوطان منذ أن أنشد امرؤ القيس قصيدته المشؤومة «قِفا نَبْكِ...» فتحولنا جميعا الى شكائين... بكّائين لا على أطلال ماضينا فهذا طبيعي وإنما على أطلال مستقبلنا... والأفضل أن نتجاهله ولا نفكر فيه... *** دومينيك دوفيلبان اسم آخر في قائمة مفتوحة تضم ساسة كتابا يمسكون بخيط السياسة مثلما يمسكون بخيط الأدب... والرجل لمن لا يعرف ولد بالمغرب. ولم يكن بالمستغرب أن يبادر بيت الشعر المغربي إلى الاحتفاء به في الدارالبيضاء، منذ سنتين أو أكثر بقليل، وأن ينشر له محمّد بنّيس مختارات من شعره في أصلها الفرنسي وترجمتها العربية... مختارات محدودة لا شك... ويكاد العنوان نفسه يشي بها : «استعجال الشّعر»... ولكنها تدلّ على أنّ هذا الديبلوماسي الشاعر هو ابن «الهنا» و»الهناك»... أعني ابن الضفتين. يقول هو نفسه : «ولدت في هذا البلد الذي استرجع فيه روائح العطر والألوان، وأعثر فيه أيضا على أصوات شعرية مألوفة لديّ، أصوات أخوية، بالرغم من أنني نشأت بعيدا عنها، في ضواحي منابع أخرى، وفوق ضفاف أخرى»، ولعل قصيدته «حق الأخ الأكبر» Le droit dصaînesse كما ترجمها محمد بنيس، أو «حق البكورية» أي خواص البكر وحقوقه، من أهم الصائد التي ترصد هذه العلاقة المتوترة بين الضفتين، في شجن معقود علي نفسه حتى الضنى، ولغة لا تتحالف إلا مع نفسها، ولكنها تأخذ من الأشياء وتتورط فيها، ولا تميز بين «الأنا» و»الهو»... بل إن الأنا نكاد لا نقف على أي أثر لها في هذه القصيدة وفي غيرها... لغة قد نتفهمها ب»سفاح القربي»، بالمعنى الشعري النبيل للكلمة ولكنها ليست مغلقة كما هو الشأن عند شعراء وكتاب آخرين مثل رايموند روسيل... حيث الكتابة لعب بلغة لا وجود لها... أو هي مجرد مران فانتازي يطوّع الخيال للغة أو اللغة للخيال... ذلك أن دومنيك دوفيلبان يدرك أن الشاعر الحق يتكلم من باطن تراثه... حتى وهو يحرف مجراه... ويلحم بالكلمات جرحا لا يندمل واعيا أن الشعر تعويض عمّا لا يمكن تعويضه تقول فاتحة هذه القصيدة : «ليكن مباركا نشيد شجرة الزيتون/حجرا، حَصَاةد غبارا وكل كتابة بذرتها يد الحلم/كي تقود عربة الزمن القديمة/عندما يصعب عدّ الجهد والرحمة/في جوف الساعات والعدادات... وأظن أن في هذا الشعر ما يمنحنا نعمة الكشف والانبعاث، بعبارة الشاعر نفسه، هو لا يتنبأ وإنما يرصد تلك التحوّلات الغامضة في الحاضر حيث يتشكل المستقبل، ويتمهد الطريق إلى حقيقة وراء المرايا... وما وراءها إنما هو سرّ الأصول المحتفظة بغموضها الذي لا ينضب... أو كما يقول الشاعر بعبارته الجميلة : «انكشاف الشعر ينير لي سرّ الأصول، كما هو شأن صورة الطفولة حين أنظر إلى الوراء فأرى ثانية ما يشبه لوحة لماتيس». وما يراه سقيفة حالكة وباب ثقيل مفنتح يتسرب عبره مسرب من نور ذهبي... يتخيل فيه حدائق بعيدة وينابيع عطرة... «بعد ذلك ينغلق ا لباب بكل شدة وعنف على الليل... في هذه اللحظة بالذات، لا يبقى لدي سوى عيون الشعر كي أرى، وكلمات قصد العثور ثانية على طريق الافتتان العتيق». أنا أيضا أغلق هذا الباب الخاطىء... برفق... على أن أفتحه في «شروق» قادم... وقد عبرنا معا إلى ضفة عام جديد... وليكن مباركا علينا مثل نشيد شجرة الزيتون في قصيدة «الأخ الأكبر» قصيدة دومينيك دوفيلبان!