رياض جراد: لا قدر الله ..ان تم إغلاق المجمع الكيميائي راو سوم البطاطا باش يكون 7 آلاف    قابس: تنفيذ الاضراب العام الجهوي مع تواصل العمل ببعض القطاعات الحيوية    بمناسبة الذكرى 77 لتأسيسها: الخطوط التونسية تطلق عروضا استثنائية لمدة 77 ساعة    تونس تشارك بثلاثة لاعبين في بطولة العالم للكرة الحديدية المقيدة لاقل من 18 و23 عاما    البطولة العربية للجيدو للاكابر بالعراق: تونس تتوج بذهبية مسابقة الفرق للسيدات    عاجل: الخميس القادم...القضاء ينظر في قضية ضدّ المجمع الكيميائي    ساركوزي أول رئيس فرنسي يدخل السجن منذ الحرب العالمية الثانية    لمنع عودته إلى غزة.. وزيرة إسرائيلية تطالب ب"حرق" جثمان السنوار    النائب محمد زياد الماهر: يجب معالجة المديونية المجحفة للدول النامية    واشنطن: اختيار المغربي محمد العبوش لعضوية "التحالف من أجل مستقبل السلام والأمن"    تونس تحرز 7 ميداليات في بطولة العالم لل"ووشو كونغ فو للأساليب التقليدية" بالصين    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي الإفريقي في مواجهة الإتحاد المنستيري    الأهلي المصري يتوج باللقب الإفريقي للمرة الثالثة توالياً    طقس اليوم: الحرارة تصل إلى 34 درجة وأمطار ضعيفة بأقصى الشمال    عاجل: حضّروا كلّ الوثائق...التسجيل للباك يبدأ غدوة    سارة مصمودي الإمام ضمن قائمة أفضل القيادات النسائية التونسية في قطاع الصحة عالميًا    أخطاء شائعة رد بالك منها ''وقت تخزين زيت الزيتون''...تعرف علاها    التوانسة و الذهب : ال100غ تنجم توصل لل40 مليون ...شنوا الحكاية ؟    الخطوط التونسية تحتفل بمرور 77 سنة بعروض تخفيض تصل إلى 50%    عاجل: تفاصيل جديدة عن المتهمين بسرقة متحف اللوفر في باريس و ماكرون يتوعد بالمحاسبة    توفيق مجيد: المعاملة الخاصة لساركوزي في سجن "لا سونتيه" لن تعفيه من المسار القضائي    طائرات مسيّرة تضرب مطار الخرطوم قبيل إعادة افتتاحه    عاجل/ حماس تفجرها وتكشف عدد الخرقات التي ارتكبها الاحتلال لاتفاق وقف اطلاق النار..    اليوم: إضراب عام بولاية قابس    مدنين: استعدادات حثيثة لاحتضان جزيرة جربة الملتقى الدولي للمناطيد والطائرات الشراعية    ساناي تاكايشي أول امرأة في تاريخ اليابان على رأس الحكومة    دمشق تطرح نفسها بديلاً عن "قسد" في محاربة "داعش"... والتنظيم يستبق التحولات بتصعيد عملياته    باريس: مصرع عامل وإصابة تسعة إثر سقوط رافعات نتيجة زوبعة عنيفة    الكوتش وليد زليلة يكتب..الإفراط في أحدهما يُسبّبُ مشاكل للطفل.. بين التشجيع والدلال .. كيف نُربي أبناءنا؟    أصداء التربية بولاية سليانة .. مهرجان circuit théâtre    في ظل عزوف الأطفال عنها .. كيف نحوّل المُطالعة من واجب إلى مُتعة ؟    الغرفة النقابية الوطنية لأصحاب المعاصر توضح السعر المرجعي لرحي زيت الزيتون    مواطنة من أمريكا تعلن إسلامها اليوم بمكتب مفتي الجمهورية!    وكالة النهوض بالصّناعة والتجديد تفتح مناظرة خارجية بالاختبارات لانتداب 14 إطار    شركة نقل تونس: اصابة عون التأمين وحالات هلع في اصطدام بين عربتي مترو... ولجنة للتحقيق في الحادث    بعد الأربعين: 4 فحوصات دمّ هامة تنقذ حياتك    لجنة المالية والميزانية بمجلس نواب الشعب تشرع بداية من الغد الثلاثاء في النظر في مشروعي قانون المالية والميزان الاقتصادي 2026    الرابطة المحترقة الثانية: حسان القابسي مدربا جديدا للبعث الرياضي ببوحجلة    بعد أكثر من شهرين: ما الجديد في قضية اختفاء طفلة ال15 سنة أسماء الفايدي..؟    الدورة الرابعة لملتقى محجوب العياري للكتاب والآداب تحتفي بالكاتبة حياة الرايس من 24 إلى 26 أكتوبر 2025    السجن 10 سنوات وغرامات مالية لمروّج مخدّرات في الوسط المدرسي بالعاصمة    في حركة إنسانية نبيلة: تمكين طفلين قاصرين من لقاء والديهما بعد سنوات من الانقطاع عن رؤيتهما    بطولة الرابطة المحترفة الثانية: برنامج مباريات الجولة السادسة    الصناعات الكهربائية والميكانيكية في تونس تتحسن استثمارا وتصديرا    في إنجاز تاريخي.. المغرب بطلا لكأس العالم للشباب..    مسرح أوبرا تونس يكرّم الفنانة سُلاف في عرض "عين المحبة"    أجواء ربيعية خلال ''الويكاند''    خطير/ دراسة تكشف: تلوث الهواء يبطئ نمو دماغ الأطفال حديثي الولادة..!    عاجل/ حجز أكثر من 29 طنا من المواد الفاسدة.. هيئة السلامة الصحية تكشف التفاصيل..    في بلاغ رسمي: الداخلية تعلن ايقاف هؤلاء..#خبر_عاجل    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    دراسة علمية تربط بين تربية القطط وارتفاع مستوى التعاطف والحنان لدى النساء    لا تدعها تستنزفك.. أفضل طريقة للتعامل مع الشخصيات السامة    يوم مفتوح للتقصّي المُبكّر لارتفاع ضغط الدم ومرض السكري بمعهد الأعصاب..    التوأمة الرقمية: إعادة تشكيل الذات والهوية في زمن التحول الرقمي وإحتضار العقل العربي    عاجل: الكاتب التونسي عمر الجملي يفوز بجائزة كتارا للرواية العربية 2025    لطفي بوشناق في رمضان 2026...التوانسة بإنتظاره    خطبة الجمعة .. إن الحسود لا يسود ولا يبلغ المقصود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خميسيات آدم فتحي: ضرس العقل
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

حين كانت نظرية «داروين» رائجة ذهب الكثيرون الى اعتبار الجسد البشريّ شبيها بالمصنع الذي يشغل الكثير من العمّال، ولابد له بين الحين والآخر من الاستغناء عن عدد منهم كلّما استغني عن وظائفهم، وقد اعتبر الكثيرون «ضرس العقل» من بين «عمّال» الجسد البشريّ الذين لم يعد «المصنع» في حاجة إليهم، لذلك دعوا الى طرده من الفم، وإضافته الى قائمة طويلة من اعمّال «المحالين على المعاش» كالزائدة الدودية وغيرها من الأدوات الجسدية التي اعتبرت مصدر مشاكل لا غير... لكن الطب الحديث لم يلبث ان اثبت حساسية الادوار التي تلعبها هذه «الادوات».من ذلك الدور الذي يلعبه هذا الضرس (الثالث) في الفم البشريّ، فهو «القفل» الذي يحكم توازن الفكّ، وهو الذي يساعد على اغلاق الفجوات المفتوحة بين الاضراس لمنع تراكم الفضلات، وهو آخر ما يظهر في الفم، إذ يبرز غالبا بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، في السن التي يفترض اقترانها بنضج الانسان واتزانه واحتكامه الى عقله، لذلك سمّي ضرس العقل...
فلماذا يكثر التخلّص منه اذا لم يكن لفقدانه الوظيفة؟
ولماذا يسارع الاطباء الى النصح بقلعه عند اول فرصة؟
ولماذا يزداد غياب العقل عن العالم هذه الايام مع ازدياد نسبة اقتلاع ضرس العقل؟ ألا يعني ذلك وجود علاقة بين العقل وضرسه؟ طرحت هذه الأسئلة على «حرمنا المصون» بوصفها من أهل الاختصاص، فاعتبرتها احدى «طلعاتي» المعتادة، ثم بدا لها اني جاد في الأمر فأمطرتني بوابل من الاجابات العلمية الكفيلة باقناع تمثال برونزي، وحين لم تنجح في اقناعي، جادت عليّ بابتسامتها الدافئة التي أعرف معناها جيّدا في مثل هذه المناسبات، والتي تقول بشكل لا لبس فيه: ما لك يا رجل؟ هل هي رياح الخمسين شرعت في الهبوب عليك قبل الأوان؟ ثم دخلت «المكتبة» وطال بها المكوث هناك حتى ذهبت اتفقّدها، فاذا هي منهمكة في قراءة كتاب لا أدري من أين جاءت به، وعنوانه: أخبار المراهقين بعد الخامسة والاربعين...
والحقّ أن الحجج الطبيّة لم تزدني الا اطمئنانا الى صحة رأيي، فقول الاطباء ان ضرس العقل ضحيّة عاداتنا الغذائية الطارئة التي تفضّل المواد الرخوة بالمقارنة مع ما كان يلتهمه اسلافنا العضاريط من اغذية صلبة، دليل واضح على أن عقولنا قد ورثت «مصير» أضراسها. ألا يتكالب اغلبنا اليوم على استهلاك البضائع العقلية الليّنة والجاهزة للمضغ بل والممضوغة أصلا؟ أما قولهم إن هذا الضرس يأتي متأخرا فلا يجد الا ما فضل من المكان فيحشر نفسه في زاوية الفك، فإذا هو في ضيق و»تزرزيق»، يريد ان ينمو فلا يجد متّسعا فاذا هو مائل او منحرف، وإذا هو مصدر للالتهاب وتراكم الجراثيم والازعاج والانزعاج، فهو يكاد يكون وصف حال العقل البشري نفسه، أليست عقولنا دائما كالايتام على موائد اللئام، لا تجد الا ما ضاق من المكان ولا تنمو الا مائلة او ملتوية؟ لذلك كلّه اقول ان البشر لم يسارع الى التخلص من «ضرس عقله» الا رغبة في التخلص من عقله اصلا.
لننظر الى اوروبا مثلا. ألم تكن على غير حالها اليوم حين كان «ضرس عقلها» السوفياتي موجودا؟ كان للاتحاد السوفياتي الدور الأساسي في تقليم مخالب الديمقراطية الامريكية. ظل الشعار الرائج طيلة النصف الثاني من القرن العشرين أن اليسار حين يحكم يتحوّل الى وحش كاسر. وكان لابد من اثبات ذلك بتقديم النموذج «البديل» عن حديدية الشيوعيين. وقد تيسّر الأمر بفضل براعة الادارة الاعلامية الغربية، وأيضا، بفضل الكثير من البشاعات التي تم ارتكابها باسم الشيوعية والاشتراكية. لكن ما أن تفكك الاتحاد السوفياتي وحلّت سنة 1989 حتى كشّرت الديمقراطية الاوروبية (أولا) عن أنيابها، وتصاعد المدّ اليميني ضد المهاجرين، وحل «حق التدخل» محل شعارات الحياد واشتعل البلقان من جديد. ظلت اوروبا «عاقلة» حتى أمنَت، أي حتى تخلّصت من ضرس العقل. ثم حدث ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001 فتولّت الولايات المتحدة (ثانيا) التكشير عن أنياب المشهد «الديمقراطي»، وأعلنت عن تغيير قواعد اللعبة والرغبة في اعادة توزيع مناطق السيطرة على العالم بعد غياب المنافس، وأشهرت لافتة الحرب على الارهاب... حدث كل ذلك على حساب الاوروبيين طبعا. وهنا استرجعت اوروبا «شاهد عقلها» وتحسّرت على ضرس عقلها القديم، مكتشفة ان اليمين ايضا، قادر على قمع الحقيقة باسم ما سمّاه بول جونسون «الحقيقة العليا» التي يحتكرها ويخفيها. لكأن العقل محتاج دائما الى الخوف كي يجد مكانا في رأس العالم لكأن العالم الآمن لا يمكن الا ان يفقد عقله، تماما مثل كبش الحكمة الشعبية، الذي اذا شبع استنطح.
بقي الآن أن اجد سببا كفيلا بالغاية الكامنة وراء التخلص من العقل وضرسه. والحق أني ألمحت الى ذلك منذ قليل حين تحدّثت عن الاستنطاح... (سأعود الى ظاهرتي العقل الاستنطاحي والعقل الانبطاحي في مقالات قادمة...) لقد شهدت حياة البشر محطّاتها الحاسمة عند نهاية كل حرب. الحروب لها تأثيران: توقظ الوعي بما يدمّر الحياة ثم تدفع نحو استهلاك الحياة بنهم ثأريّ من الموت. في نهاية الحرب العالمية الثانية مثلا لاحظ العديد من المفكّرين ان الدفاع عن اليوطوبيا ترك مكانه للدفاع عن المتعة. هناك رغبة في الراحة ونسيان الدمار سرعان ما ينتج عنها خورُ مطلق، يقوم بانتاج اسباب الدمار اللاحق. في كل محطة من هذه المحطات يغيّر العصر «ذئابه»، فيعيش «هؤلاء» على ايقاع الرعب من ظهور ذئاب شابة تنتزع السلطة. ذلك هو كابوس ذئاب كل عصر جديد. تصبح الفحولة هي المرجع ويتم تغييب العقل كي لا تتخلخل «الذئبية». ومن شروط «الذئبية» كما يعرف الجميع: حدة «الانياب والاضراس» لامتلاك قوّة الردع، وقدرة العضو الفحولي على الانتعاظ لاثبات استمرار الصلوحية. لذلك كلّه فإن ذئاب عصرنا اليوم لا يدّخرون جهدا في سبيل توفير الشرطين: يصقلون أنيابهم بالنهش في كل من هب ودبّ، ويشحذون أضراسهم بطحن كل من تمرّد او سب، ويأكلون الكافيار وثمار البحر لشحذ الشهوة، ويحوّلون الثقافة الى بورنوغرافيا ويمارسون الطقوس السادية المازوشية لتأمين شروط الاثارة والاستثارة، وقد يستعينون بجميع أنواع الفياغرا اذا لم ينفع كل ذلك، لكنّهم يعرفون ان الحل الامثل يتمثل في اقتلاع ضرس العقل، عفوا، بل في اقتلاع العقل نفسه... ألم يقل بودلير (في يومياته) ومنذ القرن التاسع عشر: كلّما انشغل الانسان بهموم الفكر والفن قلّت قدرته على الانتعاظ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.