يجد المؤرخون الكثير من الأسباب الوجيهة التي جعلت عبد العزيز الثعالبي يقرر الهجرة مجددا، فبالإضافة إلى رغبته في التعريف بالقضية التونسية في أوروبا فإنه كان يرغب في ربط الصلة مع مناضلي الشرق في سوريا والعراق وفلسطين ومصر من أجل بعث الروح في جسد الأمة العربية الإسلامية عبر منظومة الخلافة. يضاف إلى ذلك تدهور علاقته مع باي تونس الحبيب باي، الذي كان صديقا له ثم تحولت صداقتهما إلى عداء مستحكم بسبب استمرار الثعالبي في المطالبة بالحرية والكرامة للشعب التونسي، وهو ما أدى إلى اعتقاله بعد رحلته القصيرة إلى باريس. وجاء في بعض كتب السيرة أن الثعالبي كان متفائلا جدا بهذه الرحلة، فقد قال لبعض أصدقائه إنه فخور جدا لإنجاز النسخة الفرنسية من كتاب «تونس الشهيدة» وقال عنه: «كتبته باللغة الفرنسية، حتى يفهمه الناس هناك. أردت أن يفهم أهل أوربا قصتنا، مأساتنا، الظلم المريع الذي ينزل بنا، لقد قالوا إنهم، بعد أن انتهت الحرب العالمية، يريدون عقد مؤتمر دولي رفيع يقررون فيه إحقاق الحق في كل مكان، حتى يعم السلام في كل مكان، فقلت لنفسي: إذن أحمل تونس الشهيدة، وأسافر إليهم». غير أن تفاؤله تجاه الحلفاء الفائزين في الحرب ومنهم فرنسا لم يكن في محله، إذا أعادوه مكبلا بالحديد من مؤتمر الصلح في باريس ثم تم الزج به في السجن في تونس. لكن تلك الفترة التي اتسمت بالعداء الشديد بين الثعالبي والباي لم تكن سيئة تماما، ففيها تم الإعلان رسميا عن إنشاء الحزب الدستوري، وفي فيها أيضا بدأت ضغوطات المثقفين وقادة الرأي في البلاد للإفراج عن الثعالبي من السجن خصوصا إزاء تعاظم تعلق الشعب التونسي به. وبعد مفاوضات مع الثعالبي وزعماء الحركة الوطنية تم الاتفاق على الإفراج عنه إنما مع نفيه من البلاد التونسية. واستمرت المفاوضات حتى تقرر رحيل الثعالبي من تونس عام 1923 حيث حضر آلاف التونسيين لوداعه باكين متحسرين على رحيل قائد فذ وزعيم خطيب مثله. لا شك أنه خلف وصايا ونصائح ثمينة لرفاقه في الحزب وفي الكفاح السياسي في تونس، أما فوق الباخرة، فقد اكتفى بالتلويح لآلاف المودعين بمنديله مخفيا في أعماق صدره تأثره الشديد برحيله القسري عن الأرض التي أحبها وناضل لأجلها. لقد رحل الثعالبي عن سن تناهز 46 عاما منفيا عام 1923، يراقبه عسكر الاستعمار نحو مدينة الإسكندرية في مصر، في رحلة سوف يعرف فيها العديد من أمجاد العلم والزعامة السياسية والفكرية والعلمية، وسوف يطوف عواصم العالم الإسلامي، قبل أن يعود إلى تونس ليكتشف إلى أي حد تغيرت بعودة أجيال الشباب المثقف الدارس في جامعات فرنسا.