مرّة أخرى يجد ابن خلدون نفسه في وضع سياسي لا يحسد عليه، فقد أوغر صدر السّلطان عليه وأوهموه بأنّه أنقطع عن كتابة الشعر حتّى لا يمدحه واتّهم ابن خلدون الامام أبن عرفة بالوقوف وراء هذه الدعاية التي استهدفت علاقته بأبي العبّاس الذي كلّفه بكتابة المقدّمة ويقول ابن خلدون في هذا الشان «كلّفني بالانكباب على هذا الكتاب لتشوّقه إلى المعارف والأخبار، واقتناء الفضائل، فأكملت منه أخبار البربر وزناتة. وكتبت من أخبار الدّولتين وما قبل الاسلام ما وصل اليّ منها، وأكملت منه نسخة رفعتها الى خزانته. وكان ممّا يغرون به السّلطان عليّ، قعودي عن امتداحه، فانّي كنت قد أهملت الشّعر وانتحاله جملة، وتفرّغت للعلم قط، فكانوا يقولون له «انّما ترك ذلك استهانة بسلطانك، لكثرة امتداحه للملوك قبلك، وتنسّمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم، فلمّا رفعت له الكتاب، وتوجّته باسمه، أنشدته، ذلك اليوم هذه القصيدة أمتدحه، وأذكر سيره وفتوحاته، واعتذر عن انتحال الشّعر، واستعطفه بهديّة الكتاب اليه» ويقول ابن خلدون في مطلع القصيدة: «هل غير بابك للغريب مؤمّل أو عن جنبك للأماني معدل؟» وعلى الرّغم من قصيدة الاعتذار الطويلة لم يكفّ أبن عرفة عن سعيه ويقول أبن خلدون «ثمّ، كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات، وأبن عرفة يزيد في اغرائهم متى اجتمعوا اليه، الى أن أغروا السّلطان بسفري معه، ولقّنوا النّائب بتونس القائد فارح، من موالي السّلطان، أن يتفادى من مقامتي معه، خشية على أمره منّي، بزعمه، وتواطئوا على أن يشهد أبن عرفة عن ذلك للسّلطان، فشهد به في غيبة منّي، ونكر السّلطان عليهم ذلك، ثمّ بعث اليّ، وأمرني بالسّفر معه، فسارعت الى الامتثال، وقد شقّ ذلك عليّ، الاّ أنّي لم أجد محيصا عنه، فخرجت معه، وانتهيت الى تبسّة، وسط تلول أفريقية، وكان منحدرا في عساكره وتواليفه من العرب الى توزر، لأنّ أبن يملول كان أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين، وأستنقذها من يد أبنه، فسار السّلطان اليه، وشرّده عنها، وأعاد اليها أبنه وأولياءه، ولمّا نهض من تبسّة، رجّعني الى تونس فأقمت بضيعتي الرّياحين من نواحيها، لضمّ زروعي بها الى أن قفل السّلطان ظافرا منصورا فصحبته الى تونس»