قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين} (الآية 31 الأعراف) ما المقصود بالزينة ؟ جاء في صحيح مسلم عن سبب نزول هذه الآية ما رواه عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: «كانت العرب تطوفُ بِالبَيْتِ عُرَاةٍ إلاّ الحُمس* (الحُمْس: قُريش وما ولدت. وقد سُمّوا بهذا الاسم لأنهم تحمسوا في دينهم، والحماسة، الشجاعة: عن الجامع الصحيح، بتصرف). كانوا يطوفون بالبيتِ عراةٍ، إلاّ تعطِيهُم الحُمس ثِيابًا، فيعطي الرّجال الرّجال والنّساء النّساء.....». وكانوا يقومُون بهذا الفعل – الطّواف بالبيت في حالة عري – من أجل تصوّر سكّان مكّة القريشيين ، أنّ القُرب من حرم الله من غير ثيابهم إهانَةً للمقام . ولذا كان الزائرون ينتظرون ما يجود به الرّجال والنساء عليهم من الثياب المناسبة لهم ، وإلاّ فإنهم مضطرون لِخَلْعِ ثِيَابِهِمْ والطّواف بالبيت في حالة عَرَاءٍ كَامِل ، لأن الحُمّس كانوا يقولون : نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لأَحَدٍ من العرب أن يطوفَ إلا في ثيابنا ، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلاّ من طعامنا (عن تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور بتصرف). واستمرّ الأمر على هذه الحالة إلى أن نزلت الآية الكريمة: « يا بني آدم خذوا زينتكم......» الآية، فعندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا بكرٍ أن يؤذن في النّاس :» أن لا يَحجّ بعد الآن مُشرك ، ولا يطُوف بالبيتِ عريان «( نفس المصدر السابق). وإذن فإن الآية الكريمة قد جاءت لتلفت نظر عباد الله المؤمنين إلى وجوب إبطال تلكم العادة الجاهلية، والتصرّفات الخرقاء التّي كان يُمَارِسُهَا أصحابُهَا وهم يظُنُون أنهم يُحسِنُون صنعا ! فقد حتمت عليهم الآية أن يأخذوا زينتهم عند كلّ مسجد ، ومن بَابِ أولى وأحرى عند طوافِهم بالبيت العتيق وزيارة الحرم الأمين. والزينة المأمور بها هي :اللباس يستر العورة، ويواري السوأة بصفة خاصة، لأن في ذلك كمال الحياء والتأدب، والبعد عن الحيوانية المطلقة، التي لا تحط من قدر الإنسان، وتنأى به عن المكانة المميز بها عن سائر المخلوقات و الأحياء ، من المولى جل وعلا . فالعراء أمر قبيح تقزز منه النفوس الأبية ، وتنكره حتى في خلواتها ، وذلك أمر فطرت عليه الذات الإنسانية، منذ أن خلق الله هذا الوجود. قال تعالى: «فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة» (الآية 22-الأعراف) فأبونا آدم وأمنا حواء لما وجدا نفسيهما في حالة تجرد شعرا بالحرج، وبالفطرة طفقا يلتمسان ما يخرجهما من هذا الحرج، ووجد ذلك في ورق الجنة الذي أبعد عنهما الخجل، وأظهرهما في المظهر الفطري الذي تطمئن إليه وترتاح. وبعد هذا نتصور أن اللباس من مقتضيات الفطرة السليمة، وهي حلية الإنسان وزينته، يحفظ له كرامته، ويرد إليه اعتباره، ويبعد عنه الريبة، ويفرض شخصيته في الوجود بما يحققه من ستر لقبائح الجسم التي لا يسعى إلى إبرازها ولا يريد النظر إليها إلا من فسدت جبلته فانعدمت لديه كل القيم، وتساوى عنده الخبيث و الطيّب فصار بذلك أقرب إلى الحيوان، منه إلى الإنسان. فلو وقع استعمال كلمة اللباس، مثلا، لبعدت عن أداء ما أريد التعبير عنه، من جعل اللباس زينة لشخصية الإنسان، وعلامة فارقة بينه وبين الحيوان !! هذا هو الأمر الأول الذي طالبت به الآية عموم المخلوقات – بني آدم – لا المؤمنين خاصة، وفي هذا التعميم ما فيه من الإقناع بأن هذا الإرشاد هو موجّهٌ إلى كُلّ النّاس، لأن دواعي الاستجابة إليه، فطرية لدى جميعهم ، بدون استثناء. (يتبع) بقلم: الدكتور علي طراد