قرّر أبن خلدون السّفر الى الحجّ فطلب الأذن من السّلطان ويقول «ثمّ خرجت عام تسعة وثمانين للجّ، وأقتضيت إذن السّلطان في ذلك فأسعف، وزوّد هو وأمراؤه بما أوسع الحال وأرغده، وركبت بحر السّويس من الطّور الى الينبع ،ثمّ صعدت مع المحمل الى مكّة، فقضيت الفرض عامئذ، وعدت في البحر، فنزلت بساحل القصير، ثمّ سافرت منه الى مدينة قوص في أخر الصعيد ،وركبت منها بحر النّيل الى مصر، ولقيت السّلطان، وأخبرته بدعائي له في أماكن الأجابة ،وأعادني الى ما عهدت من كرامته ،وتفيئ ظلّه». وبعد شغور خطّة تدريس الحديث عيّنه السّلطان الظّاهر مدرّسا لها سنة 1389م ويقول عن هذه التجربة «ثمّ شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش، فولاّني إيّاها بدلا من مدرسته، ولست للتدريس فيها في محرّم أحد وتسعين». ويضيف «وقد رأيت أن أقرّر للقراءة في هذا الدّرس ،كتاب الموطأ للإمام مالك أبن أنس، رضي اللّه عنه ،فإنّه من أصول السّنن، وأمهّات الحديث، وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله ،ومناط أحكامه، والى أثاره يرجع الكثير من فقهه». كما كلّفه بإدارة زاوية من زوايا القاهرة التي أوقفها السّلطان على الزّهّاد ولكن المؤامرات والدسائس كانت في أنتظاره مرّة أخرى بسبب عداء قديم مع ناظر الزاوية يعود الى أيّام توليّه القضاء. ويقول في هذا الباب «كانت بالقاهرة خانقاه شيّدها السّلطان بيبرس، ثامن ملوك التّرك الذي إستبدّ على النّاصر محمد بن قلاوون هو ورفيقه سلار،وأنف النّاصر من أستبدادهما وخرج للصيّد، فلمّا حادى الكرك أمتنع به، وتركهم وشأنهم فجلس بيبرس على التّخت مكانه ،وكاتب الناصر أمراء الشّام من مماليك أبيه ،وأستدعوه للقيام معه، وزحف بهم الى مصر، وعاد الى سلطانه، وقتل بيبرس وسلار سنة ثمان وسبعمائة. وشيّد بيبرس هذا أيّام سلطانه داخل باب النّصر من أعظم المصانع وأحفلها، وأوفرها ريعا، واكثرها أوقافا، وعيّن مشيختها، ونظرها لمن يستعدّ له بشرطه في وقفه، فكان رزق النّظر فيها والمشيخة واسعا لمن يتولاّه، وكان ناظرها، يومئذ، شرف الدين الأشقر، إمام السّلطان الظّاهر،فتوفيّ عند منصرفي من قضاء الفرض، فولاني السّلطان مكانه توسعة عليّ وإحسانا إليّ، وأقمت على ذلك الى أن وقعت فتنة النّاصري». يتبع