أستقّر أبن خلدون في القاهرة وشاءت الصّدف أن يتوفّى أحد مدرّسي المدرسة القمحية فعيّن أبن خلدون مكانه ليبدأ تجربة أخرى من التدريس في القاهرة ويقول عن هذه التجربة «ثمّ هلك بعض المدرسيّن بمدرسة القمحيّة بمصر،من وقف صلاح الدّين أبن أيّوب، فولاّني تدريسها مكانه،وبينا أنا في ذلك، إذ سخط السّلطان قاضي المالكية في دولته، لبعض التبرّعات،فعزله، وهو رابع أربعة بعدد المذاهب، يدعى كل واحد منهم قاضي القضاة، تمييزا عن الحكّام بالنيابة عنهم، لإتّساع خطّة هذا المعمور، وكثرة عوالمه، وما يرتفع من الخصومات في جوانبه، وكبير جماعتهم، قاضي الشّافعية، لعموم ولايته في الأعمال شرقا وغربا، وبالصّعيد والفيّوم، وإستقلالية بالنّظرفي أموال الأيتام، والوصايا، ولقد يقال بأنّ مباشرة السّلطان قديما بالولاية إنّما كانت تكون له . ويضيف «فلمّا عزل هذا القاضي المالكي سنة ست وثمانين، إختصّني السّلطان بهذه الولاية، تأهيلا لمكاني، وتنويها بذكري، وشافهته بالتّفادي من ذلك، فأبى إلاّ أمضاءه،وخلع عليّ بإيوانه، وبعث من كبار الخاصّة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصّالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إليّ من ذلك المقام المحمود، ووفّيت جهدي بما أمّنني عليه من أحكام اللّه، لا تأخذني في الحقّ لومة، ولا يزغ عيني جاه ولا سطوة، مسويّا في ذلك بين الخصمين، أخذا بحق الضّعيف من الحكمين، معرضا عن الشّفاعات والوسائل من الجانبين، جانبا الى التّثبّت في سماع البيّنات، والنّظر في عدالة المنتصبين لتحمّل الشّهادات، فقد كان البرّ منهم مختلطا بالفاجر، والطيّب ملتبسا بالخبيث، والحكّام ممسكون عن أنتقادهم، متجاوزون عمّا يظهرون عليه من هناتهم، لما يموّهون به من الأعتصام بأهل الشّوكة، فإنّ غالبهم مختلطون بالأمراء، معلّمين للقران، وأئمّة في الصّلوات، يلبّسون عليهم بالعدالة فيظنّون بهم الخير،ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة، والتّوسّل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزويروالتّدليس بين النّاس منهم، ووقفت على بعضها، فعاقبت فيه بموجع العقاب، ومؤلم النكال، وتأدّى إليّ العلم بالجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمّل الشّهادة، وكان منهم كتّاب لدواوين القضاة والتّوقيع في مجالسهم، قد درّبوا على إملاء الدّعاوي، وتسجيل الحكومات « يتبع