يقول علماء المنطق: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، وعندما هممت بالحديث عن رحيل الشاعرة زبيدة بشير خشيت أن يكون كثير من القراء لا يعرفون عنها شيئا، فرأيت أن ألقي عليها وعلى حياتها الأدبية بعض الأضواء حتى يتصوروا عمن أتحدث، ثم أختم كلمتي بالحديث عن نهايتها المؤلمة. سمعت اسم هذه الشاعرة أول مرة في إذاعة ال: (بي بي سي لندن) سنة 1953 أو 1954 في برنامج كان يقدمه حسن الكرمي - إن لم تخني الذاكرة – وفي ذلك البرنامج سمعت لها قصيدة من أوائل قصائدها التي بدأت بها رحلتها في درب الشعر الطويل، ولكني لم أتعرّف على صاحبتها إلا سنة 1960 في مدخل دار الإذاعة التونسية، وقد قدمَنا إلى بعضنا صديق الاثنين مصطفى الفارسي، وعندما توطدت علاقتي بها أثناء عملها بالإذاعة حدثتها عن سماعي لاسمها وشِعْرها في إذاعة لندن، فأخبرتني بأن عنوان تلك القصيدة هو «نهاية قلب» وقد نشرت في ديوانها الأول (حنين) سنة 1968 ص 79/82 وهي فيه تحمل تاريخ 1953 وهي تتكون من عشرة مقاطع متساوية، ولكنها في النسخة التي سلمتها إلي بخطها تحمل تاريخ 1954، وفيها مقطع آخر لم ينشر من قبل فقد أخبرتني صاحبتها بأنه قد حذف عند نشر القصيدة لأول مرة في مجلة الإذاعة، لأن مدير الإذاعة التونسية، في أوائل عهد الاستقلال، توجس خيفة من نشره حذرا من أن يَفهم القراءُ والمسئولون خاصة أن الشاعرة تشكو من الوضع التونسي في فجر الاستقلال، ورغم أنها أعلمته بأنها كانت تصف الوضع في عهد الاستعمار الذي كتبت فيه القصيدة، ورغم اقتناعه بكلامها فإنه خشي أن يظن المسئولون الكبار أنهم معنيون بذلك، فأصرَّ على حذفه تجنبا للتأويلات، ولم يُنشر ذلك المقطع في ديوانها الأول لنفس الأسباب، ولكنها ظلت محتفظة به بين أوراقها. وقد سلمتني الشاعرة نسخة كاملة من تلك القصيدة بخطها لإضافة ذلك المقطع المحذوف مع ذكر سبب عدم نشره في السابق، وذلك عندما أعلمتها بأن «وزارة الثقافة والمحافظة على التراث» قد قررت جمْع أشعارها المتمثلة في ديوانيْها المنشوريْن: «حنين وآلاء» وأشعارها الأخرى التي عثرت عليها مخطوطة لديها أو منشورة هنا وهناك، ونشْرَها في ما يسمى ب(الأعمال الكاملة). ونذكِّر بأن زبيدة بشير قد عملت في الإذاعة التونسية مذيعة ربط ومنتجة لبعض الحصص الإذاعية ومشاركة في إنتاج برامج الكثير من زملائها وشاركت في أمسيات شعرية في العديد من ولايات الجمهورية، وقد كانت عضوا في الوفد التونسي المشارك في مؤتمر الأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي في بغداد سنة 1965 وكتبت الشعر العمودي والحر والقصة القصيرة الخ وفي غمرة هذا النشاط فضلت الانسحاب من الإذاعة وتوارت عن أنظار المثقفين فترة طويلة من الزمان خالها البعض فيها أنها فارقت الحياة، وقبيل عودتها إلى ميدان الشعر، اختارت منظمة الكريديف أن تسمي جائزتها الإبداعية باسم (جائزة زبيدة بشير، فكان ذلك من دوافعها للعودة إلى عالم الشعر بعدما حسبت أنها طلقته إلى الأبد، فنُشرَ لها في هذه المؤسسة النسائية ديوانُها الثاني (آلاء) سنة 2002، وقد انكبت قبيل رحيلها على إعداد ديوانها الثالث (طائر الفينيق) الذي سيرى النور في القريب كما أرادته. بعد هذه الكلمة التي أرجو أن أكون قد ألقيت بها بعض الأضواء على هذه الشاعرة أعود إلى الحديث عن نهايتها، أجريت عليها عملية جراحية في إحدى العيادات ثم نقلت إلى المستشفى العسكري بمونفلوري حيث لفظت أنفاسها الأخيرة صباح يوم الأحد 21 رمضان المعظم 1432ه 21 أوت 2011م في المستشفى العسكري بمونفلوري، بالقرب من المكان الذي توفي فيه أبو القاسم الشابي في 9 أكتوبر 1934م غير بعيد عن مقبرة الجلاز، ولكنهما لم يدفنا فيها، فقد نقل جثمان الشابي إلى مسقط رأسه «الشابية» حيث دفن في «روضة الشابي» أولا ثم نقل جثمانه إلى»توزر» المجاورة لها حيث «المركب الثقافي» الذي يحمل اسمه، ودفنت زبيدة في «مقبرة سيدي يحيى» بالقرب من «حي العمران» في اليوم الموالي لرحيلها بجوار ضريحيْ أبويها، ولعل جثمانها سينقل يوما ما إلى مسقط رأسها «ساقية سيدي يوسف» على الحدود التونسية الجزائرية حيث نتوقع إحداث مركب ثقافي يحمل اسمها، وقد قام بتأبينها «وزير الثقافة والمحافظة على التراث» الدكتور عز الدين باش شاوش، وتلاه زميلها القديم في الإذاعة التونسية أحمد العموري، وحضر الموكبَ ثلةٌ من المثقفين في مقدمتهم بعض من زملائها في الإذاعة: خالد بن فقير وصالح بيزيد والبشير رجب وكاتب هذه السطور وبعض مرافقي السيد الوزير من وزارة الثقافة، إلى جانب وجوه ثقافية أخرى لا أتذكر أسماء أصحابها، ولكني فهمت من كلامهم عنها أنهم يعرفونها معرفة جيدة، وإثر انتهاء مراسم الدفن بقليل اتصل بي المنصف المزغني هاتفيا عائدا إلى العاصمة من صفاقس مسقط رأسه لحضور هذا الموكب ولكنه وصل بعد فوات الأوان للأسف، هذا ولم أر واحدة من الكريديف في موكب الوداع الأخير، ولعل عذرهن في ذلك يعود إلى أن النساء لا يحضرن عادة في مثل هذه المناسبة، وكان في إمكانهن أن يرسلن باقة ورد مع من يضعها باسمهن على ضريحها ترحُّما على روحها واعترافا بما قدمته لهن من أنشطة ثقافية بمناسبة احتفالهن بالجائزة التي تحمل اسمها، وأرجو أن تسرع الكريديف في الإعلان عن الدورة الجديدة لهذه الجائزة التي ستنتظم في المستقبل في غيابها الجسدي وحضورها الروحي، فالشعراء يرحلون ولا يموتون. وأخيرا أبشر القراء بأن السيد وزير الثقافة قد أعلم الحاضرين من المثقفين بعزمه على إصدار ديوانها الأخير، ثم نشر دواوينها الثلاثة في مجلد واحد في أسرع وقت ممكن. نورالدين صمود E-Mail : [email protected]