ملف التسفير إلى بؤر التوتر: حجز القضية للمفاوضة والتصريح بالحكم    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    الرابطة الأولى (الجولة 28): صراع مشتعل على اللقب ومعركة البقاء تشتد    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    القضية الفلسطينية تتصدر مظاهرات عيد الشغل في باريس    نسق إحداث الشركات الأهلية في تونس يرتفع ب140% مقارنة بسنة 2024    أعوان وإطارات المركز الدولي للنهوض بالاشخاص ذوي الاعاقة في اعتصام مفتوح    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    لأول مرة في التاريخ: شاب عربي لرئاسة ريال مدريد الإسباني    تشيلسي يهزم ديورغاردن 4-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    زاراها قيس سعيد...كل ما تريد معرفته عن مطحنة أبة قصور في الكاف    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    رئيس الجمهورية في عيد العمّال: الشغل بمقابل مع العدل والإنصاف    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الليلة: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 15 و26 درجة    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشّاعر منصف الوهايبي ل«الشروق»: المتهافتون على الثورة زيّنوا
نشر في الشروق يوم 02 - 09 - 2011

المناخ الذي قاد تونس الى ثورة وأداء المثقّف ورياضة الركوب على الثورة والخراب النفسي الذي أسسّ له النظام السّابق كانت محاور الحديث مع الشّاعر والجامعي منصف الوهايبي. منصف الوهايبي من الشخصيات الثقافية البارزة عبّر بوضوح عن أعتراضه على سياسة بن علي بالتوازي مع حضوره الشّعري والفكري في تونس والعالم العربي وأوروبا ،الشروق التقته في هذا الحوار.
كنت من القلائل الذين وقفوا ضد بن علي بصوت عال لماذا لم نعد نسمع صوتك بعد الثورة؟
لا بدّ أنّك تقصد بالقلائل من الشعراء والأدباء عموما؛ لأنّ النّشطاء من حقوقيين ونقابيين وسياسيين ليسوا على أيّة حال قي قلّة الأدباء الذين عارضوا بن عليّ. على أنّ صوتي ضدّ نظامه والمنظومة القيمية التي دعمته لم يكن عاليا وإنّما كان واضحا. وحرصتُ دائما على أن يكون واضحا تفاديا لكلّ تلبيس أضحى كثير من المثقّفين في تونس ماهرين فيه ويحذقونه بشكل يسمح لهم بالانتقال من موقف إلى موقف ببهلوانيّة يتصوّرونها خارقة لكنّها في حقيقة الأمر مضحكة؛ وشواهد ذلك كثيرة اليوم بعد 14 جانفي.
والحق أنا لم أسكت تماما، وكلّ ما في الأمر أنّني لم أظهر في وسائل الإعلام المرئيّة التي تهافت عليها كلّ من هبّ ودبّ بعد 14 جانفي.ولكنّي نشرت ثلاثة نصوص في الصحافة العربيّة، فضلا عن بعض القصائد؛ وهي تتعلّق كلّها ب«الثورة التونسيّة» أو «ثورة الياسمين» علما أنّني كنت أوّل من استعمل هذه التسمية قبل أشهر من حدوث ما حدث، وذلك في «التخربيشة» التي دأبت على كتابتها أسبوعيّا في صحيفة «الطريق الجديد». وهذا لا يعني طبعا أنّني تنبّأت أو توقّعت 14 جانفي، وإنّما كان الأمر على سبيل الشيء بالشيء يُذكر؛ فقد استحضرت ثورة القرنفل في البرتغال، والقرنفل هو الذي استدعى الياسمين.
قلت في هذا النص القصير المنشور في 12 جوان 2010 أي قبل الثورة بسبعة أشهر: عام 1935 كتب شاعر البرتغال الشهير فرناندو باسّوا، معرّضا بسلازار الذي أرسى في البرتغال دكتاتوريّة امتدت من1934 إلى 1974: «هو لا يشرب الخمر ولا يشرب القهوة، لكنّه يشرب الحقيقة والحرّية بنهم عرّضهما للنفاد في السوق». قد لا يكون ثمّة أبلغ من هذه الصّورة في وصف حال العالم العربي الذي آن ل«أساطيل الحرّية» أنْ تفكّ الحصار الذي تضربه الأنظمة على شعوبه، عسى أن تعجّل بثورة «ياسمينيّة» إن لم تكن قرنفليّة». هذا بعض ما كتبت في نقد الاستبداد،وكنت أصرّح كلّما وجدت سبيلا إلى ذلك، وأواري وأرمز كلّما استعصى الأمر أو تعذّر. وكنت من المغضوب عليهم «ولا الضالّين»، وذلك منذ أن اعتذرت عام 1989 عن استلام وسام استحقاق ثقافي من الصنف الرابع، كان النظام قد منحه لأربعة شعراء تونسيّين: استلمه اثنان، ولم أستلمه أنا وأولاد أحمد. فقد أدركت أنّ هذا الوسام كان أشبه بهديّة مسمومة؛ ذلك أنّي نشرت عام 1989 في مجلّة «المغرب العربي» مقالا كان له بعض صدى، وسمته ب«إلى الصديقين اللدودين: حمّة الغنوشي وراشد الهمّامي».
وتوقعت فيه لأسباب شرحتها والخلاف على أشدّه بين رفيقنا حمة وأخينا راشد أنهما لا يمكن إلاّ أن يكونا حليفين،بسب الأنساق الإطلاقيّة التي يحملانها، على اختلاف مرجعيّة كلّ منهما. وكنت على بعض دراية و إلمام بمرجعيّة اليسار التونسي «الماركسي اللينيني الماوي» بحكم أني انتميت منذ التحاقي بالجامعة في أواخر الستينات إلى منظمة «العامل التونسي» السرية؛ وكنت في وقت ما أخفي كلّ وثائق الحركة في منزلي في بوعرادة حيث كنت أدرّس من عام 1972 إلى 1974،قبل أن يأتي أحمد كرعود والنوري بوزيد لاستلامها قبل بضعة أيام من إيقاف كثير من رموز الحركة.
أمّا بخصوص المقال الذي أشرت إليه فأظن أنّ النظام كان يسعى إلى توظيف مثل هذا السجال الفكري لصالحه، فكان أمر ذلك الوسام الذي اعتذرت عن استلامه دونما أيّة ضجّة تذكر، فهذا طبعي الذي يعرفه عنّي أصدقائي.أي أنّ الواحد منّا كان يستطيع أن يقول «لا»شريطة أن يعرف كيف يقولها ومتى، فلا عذر للذين يتذرّعون بالخوف،وخاصّة من «المناشدين» الذين يزعمون أنّ أسماءهم وُضعت دون علم منهم؛ فلماذا لم يحتجّوا على ذلك في الإبّان. بل لماذا لم يتساءلوا إذا كان ذلك قد حدث حقا لمَ تجرّؤوا عليهم دون غيرهم.. لمَ لمْ يفعلوا ذلك معنا نحن؟
والحقّ أنا أكتب أكثر ممّا أتكلّم، ومع ذلك استدعيت عام 2005 إلى برنامج جوزيف عيساوي «قريب جدا» في قناة «الحرّة» في بيروت، وقلت رأيي بكلّ صراحة في النظام التونسي الذي نعته بالمتخلف وفي الانتخابات المدلّسة التي دأبت تونس على إجرائها منذ الحقبة البورقيبيّة وقلت إنّي لا أحبّ أن أموت دون أن أشهد انتخاب رئيس تونسي انتخابا حرّا نزيها.
وكنت أيّامها قد شاركت في القيروان في إضراب الجوع الذي قام به نفر من المناضلين بمناسبة انعقاد قمّة المعلومات بتونس، وكتب قصيدة تحيّة للمضربين الثمانية نشرتها جريدة «الموقف». وهو ما جعلني يومها مساء وأنا أقوم برياضتي اليوميّة: المشي عرضة لاعتداءٍ جبان ٍبالعنف، احتجّ عليه وقتها غير واحد من المناضلين السياسيين والصحافيين ونشطاء حقوق الانسان.ولكنّي لم أهوّل الأمر، وتقدّمت بقضيّة ضد مجهول لا يزال مجهولا؛ وإن كان الأرجح أنّه من ميليشيات التجمّع، قام بما قام به،بأمر أو اجتهاد من أحد أعرافه. وأظنّك تسلّم معي بأن قاطع الطريق الذي يفصح عن هويته حالما يباغتنا في مفترق مظلم، خير من المجرم الذي يأتينا في مسوح الرهبان ثم يرتكب جريمته وهو هادئ السّرب وادع النّفس!
فلا تكبيت ضمير ولا وخز ندم.. فهذه كلمات قذرة في عرف نظام بن علي، وأفكار شرّيرة فاسدة مخرّبة ترتبط بالمناورات والمعاملات المنحطة.
باختصار شديد، أنا تكلّمت طوال العشرين سنة الماضية،بصوت واضح كلّما أمكن، حتى في هذه الجريدة «الشروق» التي فتحتْ لي مشكورة حيّزا فيها، كتبت فيه ما كتبت، بتعقّل ورصانة ولكن دون مهادنة. وقد أدركت منذ أواخر التسعينات وبدايات العشريّة الأولى من هذا القرن، مثل كثير أو قليل من التونسيّين، أنّ الوضع في تونس ليس على ما كنّا نأمل في نوفمبر1987.
فقد ذهب في ظن كثير منّا انّ بن علي خلّصنا من خرف بورقيبة ومن خطر «الأصوليّة» أو«السلفيّة» الداهم. ثمّ بدأنا نرى بأمّ أعيننا حجم الدمار الذي ألحقه نظام بن علي بالتونسيّين، وأنا أقصد هنا الدمار النفسي والفكري، ولا إخالنا سنشفى منه قريبا.. وهو مروّع حقا،ذلك أنّ نظام بن علي لم يحرم شباب تونس من حرّية التعبير فحسب، وإنّما من القدرة على التعبير أيضا.
انظر إلى أكثر الفايسبوكيين كيف يكتبون.. وكلّ ما فعلته «الثورة» أنها كشفت عن جانب من هذا الدمار في منظومة التعليم أو منظومة الثقافة..لعلّك تراه مثلي في هؤلاء الذين كانوا خرسا بكما، أو هم في ركاب السلطة؛ ثمّ اكتشفوا فجأة أنّ لهم حنجرة وحبالا صوتيّة، فأخذوا يدرّبونها، وقد وُهبوا فرصة أن يتكلّموا باسم الديمقراطية، وهم الذين كان عليهم أن يتهجّوها حرفا.. حرفا.. أو جرْسا.. جرْسا.. وربّما اضطرّوا الى إجراء أكثر من عملية جراحية على حناجرهم المتعودة، في العقدين الماضيين على السكوت أو على مديح النظام وذلك حتى ينطقوا بالديمقراطية كما ينطق بها أهلها.
ولكني لا أخفي عليك وأنا لا أضع نفسي في موضع الضحيّة سواء قبل 14 جانفي أو بعده فقد مُنحت فرصة أن أدير مؤسّسة إعلامية، ذلك أنّ أطرافا في حكومة ما بعد «الثورة» عرضوا عليّ إدارة إذاعة قفصة أو الثقافيّة أو الوطنيّة أو إذاعة المنستير؛ وقد كدت أقبل الأخيرة، ولكنّي اعتذرت قبل أن أباشر العمل فيها؛ فقد تبيّن لي وأنا استمع إلى شكاوى العاملين فيها صحبة السيد المدير العام، أنّ حجم المشاكل أكبر ممّا كنت أتوقّع. وقلت إنه من الأفضل لي أن لا أزجّ بنفسي في عمل إداريّ مرهق، وأن أحتفظ بساعاتي الخمس والنصف في الجامعة، حيث أجد في عملي الوقت الكافي لإعداد دروسي ولتأطير طلبة الماجستير والدكتوراه، فضلا عن القراءة والكتابة والسفر، وهي الثلاث التي حبّبت إليّ.. بل نصحت الذين اقترحوا عليّ هنذا المنصب،أن يكلّف بمثل هذا العمل أشخاص مستقلّون تماما عن الأحزاب.
لكن ما ينبغي التّذكير به أنّي لم أنخرط في معارضة منظومة الحكم السّياسيّة والقيميّة في نصوصي الشّعريّة والأدبيّة؛ فأنا لا أعتبر نفسي كاتبا ملتزما بالمعنى المعهود، وإنّما أسعى إلى كتابة قصيدة أفعّل من خلاها حياتي‘ ما هو يوميّ فيها وما هو ميتافيزيقيّ. ولذلك، فإنّ مناهضتي للمشهد السّياسيّ الذي احتلّه بن عليّ تعكس ما أتصوّره الشّرط الأدنى لعلاقة المثقّف بالشّأن العامّ، وهذا يقتضي تدبيرا معيّنا لهذه المناهضة قدّرتُ أن يكون من خلال انتسابي إلى هيكل سياسيّ واضح لأنّ نصّي الشّعري يتحرّك في أفق وجودي غير مسيّس بالمعنى الحرفي للسياسة وفي حساسيّة جماليّة لا تقطع مع السّياسيّ لكنّها ليست على أيّة حال مسيّسة. وحتّى القصائد التي كتبتها في تفاعل مع بعض الأحداث السّياسيّة أو تنديدا ببعض المواقف والممارسات التي تورّطت فيها هياكل»نقابيّة» ما كان لها أن تورّط نفسها بذلك الشّكل الفجّ؛ إنّما أعدّها مناسبتيّة ومنبريّة ولا أعتبرها ممثّلة لتجربتي الشّعريّة.
لأقل إني لم أصمت في واقع الأمر. ولكن السّياق تغيّر؛ فلم نعد ضمن معادلة تقليديّة معقودة على تقابل بين سلطة وموالاة من جهة ومعارضة ليّنة أو راديكاليّة من جهة ثانية، وإنّما نحن في وضع انتقالي نتيجة «حدثيّة» استثنائيّة في تاريخ تونس المعاصر تأتّى لي أن أتمثّلها في بعض النّصوص الشّعريّة. وقد أتمثلها في نصوص أخرى. وفي الجملة، فأنا مثلي مثل مثقّفين كثيرين أتعلّم بعدُ كيف أتهجّى هذا الوضع الانتقالي...
رياضة الركوب على الثورة يبدو أنّها صارت تستهوي الكثير من المثقفين كيف ترى هذه المسألة؟
هذا على أيّة حال سلوك يصاحب جلّ الثّورات إن لم يكن كلّها. وليس معنى ذلك أنّه مبرّر. لكن ماذا تنتظر من مثقّف يبارك سياسة بن عليّ؟ أتظنّ أنّه كان يفعل ذلك من منطلق قناعة إيديولوجيّة أو رؤية ثقافيّة رصينة؟ هو على الأرجح يصدر عن طبع وصوليّ؛ ومن الصّعب أن يتخلّى عن هذا الطّبع.. وليس خافيا أنّ الذين يتهافتون اليوم على الرّكوب على الثّورة ببهلوانيّة لافتة هم أنفسهم الذين زيّنوا لبن علي أنّه مفكّر ومثقّف وصاحب رؤية.. وهم الذين لم يتخلّفوا عن ركب مناشدته الحكم سنة 2014 (فهم لم يفعلوا سوى أن حوّلوا ركب المناشدة إلى ركوب على الثورة). إلاّ أنّني أتصوّر أنّهم يحوّلون أنفسهم إلى أضحوكة سمجة.. نعم هذه هواية جديدة أخذ يتعاطاها كثيرون وليس الجميع حالما تأكّدوا أنّ بن علي لن يعود،ونحن لم نلتقط بعد أنفاسنا من أثر ما انهال على رؤوسنا من صور سيدي بوزيد والرقاب وتالة والقصرين ودوز والحوض المنجمي ...
كيف تقيّم مرحلة حكم بن علي..؟
مرحلة كارثيّة في تاريخ تونس سنعاني منها طويلا.. أخشى أن نكتشف يوما حقيقة مرعبة مفادها أنّ بن علي حكمنا بذلك الشّكل القبيح والبائس لأنّ تونسيّين كثيرين يشبهونه.. لا أستطيع وأنا لا أتشفّى،بل أشفق على القاصرين والأطفال من عائلة بن علي والطرابلسي وهم تونسيّون وجدوا أنفسهم فجأة ضحيّة جريمة مروّعة لم يرتكبوها سوى القول إنّ نظام بن علي هوعلامة الجريمة الحدث الذي عقد قرانه على الثروة المنهوبة.
ثمّ حديث نبوي يقول إنّ من أخذ شبرا من الأرض غصبا أو سرقة جاء يوم القيامة يحمله أو يطوّقه.أمّا اليوم وقد سرق بن علي وبطانته بلادا بأكملها: أرضها وبحرها وناسها وحيوانها، فلا أظنّ مشهد جمهوريّة مسروقة تُعرض في «موقف الحشر» ممّا خطر ببال صاحب «رسالة الغفران» أو صاحب الكوميديا الإلهيّة. حكم بن علي علامة الفقر الأخلاقي.. علامة «الإيمان البخيل» الذي يعطّل الكرم الإلهي: الحقّ في الحياة الكريمة الذي حُرم منه الآلاف من شباب تونس. لكن ما بين تونس بن علي وتونس 14 جانفي لاأملك سوى الأمل في أن يجسر التونسيّون الهوّة التاريخيّة التي كان بن علي وبطانته من كتَبة وأساتذة قانون وأحزاب ديكور، يحفرونها بمعاول «الديمقراطيّة» وفؤوس «الحرية».
ألا يوجد خوف من ولادة ديكتاتورية أخرى؟
هي مخاوف مشروعة وأتصوّر أنّ منظومة الحكم المنحلّة هي التي تمهّد لمثل هذا الاستبداد.. المهمّ أن نتنبّه إلى أنّ التاريخ يتقدّم من وضع قادم.. ابتداءً من المستقبل، وليس من الماضي أو الحاضر الذي يحمل أبدا زمنه ويطويه.وأنا لا أقصد هنا الإسلاميين أوالسلفيّين وإنّما بعض أطياف اليسار أيضا، من الذين لا يميّزون بن السياسة والإيديولوجيا.
إنّ الاعتراض على الإصلاح بدعوى أنّ مصدره خارجيّ وليس داخليا لا يقوم له سند من واقع أو تاريخ. فقد تقوّضت الحدود والفواصل بين «الخارج» و«الداخل» في عالم اليوم واستطاعت «الحداثة» من حيث هي مظلّة فكرية عامة أو ممارسة عملية أن تغنم مساحات شاسعة سياسية واقتصادية وتربوية واجتماعية وثقافية ولم يعد بميسور العرب ولا غيرهم من شعوب العالم الإسلامي أن ينزوُوا في شوارد من ثقافتهم أو في أساليب من العيش والتقاليد لا تناسب الانقلابات المذهلة في عالم اليوم.. وليس هناك نصّ صالح لكلّ زمان ومكان.والاعتراض الحقّ ليس على الإصلاح وإنّما على نموذج من التنمية ما انفكّ المستنيرون من مثقّفي الغرب يكشفون عن نقائصه وسلبيته وهو الذي جلب على البشرية مشكلتين عسيرتين إحداهما تفاقم الحيف الاجتماعي واتساع الفجوة بين أثرياء العالم وفقرائه. والأخرى الضّرر الفادح الذي طال موارد الأرض الأساسية ولم يعد بالإمكان إبطال أثر بعضه أو التخفيف منه. وكلّ هذا يجري على أساس من معادلة حسابية انتقائية تضرب بجذورها في منطق التوسع الرأسمالي والتقليد الكولنيالي على تغيّر الوسائل والوسائط حيث الهيمنة تتّخذ اليوم أشكالا أشدّ مراوغة وفاعلية.
نحن مدعوّون جميعا إلى أن نتعلّم أنّ الثقافات لا تُغتصَب ولا يمكن إخضاعها لأي نوع من التّلقيح القسري. فقد تلاقت في الأندلس ثقافات شتى ذات أصول إسلامية ومسيحيّة ويهوديّة... في أفق من «عالميّة» رحبة قائمة على التّنوّع، حتى أن البعض يجد في الأندلس نواة تاريخيّة ونموذجا مكتملا لثقافة المستقبل وامتدادا للإطار الكونيّ في جذوره الأقدم في فينيقيا واليونان. يقول أدونيس : «بدءا من الأندلس تكوّنت في الغرب الحديث، على المستوى الإبداعي، صورة عن الشرق في مثاله العربي. وهي صورة لا تردّنا إلى الحدود والأنظمة والقوميّات، وإنما تردّنا إلى الإبداع والإنسان، إلى الثّقافة وإلى الحضارة». وأظنّ أنّ في هذا الرأي مقدارا من الصواب لا يخفى. فقد كانت الأندلس ولعلها لا تزال أشبه بكرة باسكال... كرة مركزها في كلّ مكان ومحيطها ليس في أيّ مكان... صورة لعالم رحب، مركزه في كلّ نقطة على سطح الكرة الأرضيّة، ومحيطه في كلّ نقطة على هذا السّطح... هذه هي تونس التي أحلم بها.
ترشّحت سابقا لمجلس النّواب ،هل تنوي الترشّح لأنتخابات المجلس التأسيسي؟
ترشّحي سابقا كان بطلب من حركة التجديد ومن أصدقاء كثيرين لدواع شتى تمّ اعتبارها آنذاك..ترشّحت مرّة أولى عام 2004 وتمّ قبول القائمة، وترشحت عام 2009 ورفضت القائمة بذرائع واهية، وكنت أدرك مثل غيري أنها انتخابات زائفة، ومع ذلك ترشحنا لأنّ العمل السياسي ليس فرجة أو مجرّد مقاطعة.
أمّا ترشّحي للمجلس التّأسيسي فما زال قيد التّفكير بعدُ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.