لوهلة واحدة، سقطت من على برامج ثوراتنا العربية ومشاريعها، مبادئ ومسلمات قومية كنا نعدّها من التحصيل الحاصل لأية هبة شعبية رامت الانعتاق من نير الاستبداد ونار الفساد وويلات الاستعباد الدولي. لوهلة واحدة، غابت أو غيّبت مبادئ الأمن القومي العربي والتناقض العضوي مع الامبريالية الدولية وربيبتها الصهيونية ومناهضة مشاريع الهيمنة الاستعمارية ممثلة في دول «الأطلسي» وأدواتها في المنطقة العربية. ستترك أحداث ليبيا، وبلا شك، جرحا غائرا وعلامة تعجّب واستفسار صُلب العقل القومي العروبي ليس لأنها أسقطت نظاما كثيرا ما تغنى بالديباجات الناصرية ولكن لأنها مثلت منعرجا خطيرا في طبيعة علاقات حركات التحرر الوطني مع قوى الاستعمار وشكلت سابقة في تعاون قوى الثورة الداخلية مع تكتل سياسي وعسكري قطّع أوصال الأمة العربية وعاث فيها فسادا وتنكيلا وتقتيلا. عبثا، يحاول «العقل القومي» حاليا تفسير ظواهر رفع العلم الأمريكي والفرنسي في بنغازي والحفاوة التي يلقاها المفكر الصهيوني والفرنسي برنار ليفي في مصراتة ونزول قوات بريطانية خاصة في ليبيا لتعقّب العقيد معمر القذافي عبثا يحاول فهم كل هذه الأمور فالأدوات التحليلية القومية ومسلماته وقع تجاوزها بأشواط كثيرة لما صارت المعركة داخلية قسرا بين النظام وقوى التغيير وحصل عزلها عن السياق الاقليمي الاستراتيجي، الى درجة ان حديث البعض عن مؤامرة تفتك بالعواصم العربية صار ضربا من المهاترات فيما باتت دعوات باريس ولندن وواشنطن الرؤساء العرب الى مغادرة مناصبهم أمرا معقولا ومنطقيا والأنكى من ذلك يكمن في تصوير تجوال السفير الأمريكي في سوريا أو ليبيا واختراقه للسيادة الوطنية على أنه أمر عادي. المصيبة لا تقف عند هذا الحدّ، بل تتجاوزها في إبراز الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على أنه «سوبرمان الثورة الليبية» وباريس على أنها منقذة الشعب الليبي من مخالب العقيد معمر القذافي. فهل يمكن لكل ذي لبّ ان ينسى سياسات ساركوزي في الشرق الأوسط ونظرته للمقاومة الفلسطينية واللبنانية وموقفه من الحرب على العراق ومن الحرب في أفغانستان ومن تقسيم السودان ومن الحجاب ومن الأقليات المهاجرة ومن التاريخ الاستعماري لفرنسا في الجزائر وتونس؟ هل يمكن لنا ان نتجاوز عن هذه الفظاعات المقترفة في العالم العربي والاسلامي وأن نتجاهل تاريخ فرنسا الأسود في منطقة المغرب العربي وأن نطمس جزءا من هويتنا العربية والاسلامية عبر رفع علم أو أعلاما صارت رمزا للاستعباد والهيمنة. لن نصادر حق الثوار الليبيين في اختيار حليفهم او حلفائهم ولكننا سنهمس لهم من صميم الحب والغيرة ان الحليف لا يكون عدوّ الأخ إن لم يكن قاتله وأن النار التي كوت العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان لن تكون بردا وسلاما على جزء آخر من أرض العروبة والاسلام. وعلى «الانتقالي» ان يدرك قبل فوات الأوان ان الجمع بين الانتماء الحق للعروبة والتحالف مع «الأطلسي» مثل الجمع بين الماء والنار وقبل الاختيار عليه ان يعلم أن خسارة الاثنين خير من الانضواء صلب سقف الأطلسي... فكثيرون اختاروه وليّا فكانت عاقبتهم سوءا ودمارا وخسارا.