استطاع الشاعر والناقد كاظم جهاد أن يكوّن لنفسه قرّاءً أوفياء كمترجم أيضًا، وأن يصنع الحدث مرّاتٍ عديدة في هذا المجال، ليس أقلّها عند ترجمته أعمال ريلكة، وتحديدًا، عند ترجمته آثار رامبو الشعريّة، التي تعرّبت عن طريقه بنكهة مختلفة وبألمعيّةٍ وعنفوانٍ غير مسبوقَين. من ثمّ كان من الطبيعيّ أن ينتظر القرّاء أطروحته عن الترجمة وأن يحتفوا بها عند صدورها بالفرنسيّة سنة 2007 عن دار «أكت سود» ثمّ عند صدورها أخيرًا بالعربيّة بعنوان «حصّة الغريب، شعريّة الترجمة وترجمة الشعر عند العرب» (منشورات الجمل. 2011. 607 ص). القسم الأوّل من الكتاب مُخصّص لشعريّة الترجمة كما تبلورت لدى الباحث بعد أن تتبّع ملامحها لدى أعلام الفكر والترجمة الغربيّين تنظيرًا وممارسةً خاصّة في مجال ترجمة الشعر. وفيه قراءةٌ وتأويل ومُساءلةٌ لجُلّ ما كُتِب في هذا الموضوع من هايدغر إلى ريكور ومن هولدرلين إلى دريدا ومن بنيامين إلى كلوسوفسكي ومن ميشونيك إلى برمان ومن بنفنيست إلى مارغو ومن ياكوبسون إلى كازانوفا ومن ستينر إلى تشومسكي، والقائمة أطول من ذلك بكثير. أمّا القسم الثاني فهو يعنَى بالثقافة العربيّة متابعًا مراحل حركة الترجمة التي عرفتها هذه الثقافة، محلّلاً أسباب قلّة ترجمة الشعر في العصر الوسيط بالمقارنة مع تزايد ترجمة الآثار الشعريّة في العصر الحديث. وفيه حوار عميق مع الجاحظ والتوحيديّ والجرجانيّ والصفديّ وابن إسحق وغيرهم، ثمّ مع روّاد النهضة وأعلام العصر الحديث مثل الشدياق واليازجيّ والكرمليّ وجرجي زيدان ويعقوب صرّوف، دون أن ننسى الطهطاوي والمنفلوطي وطه حسين، وصولاً إلى وديع البستانيّ وجماعة أبولو ومجلّة شعر وغيرهم. وأمّا القسم الثالث فهو مُخصّص لدراسة عدد من الترجمات العربيّة للأشعار الأوروبيّة دراسةً مقارنةً ونقديّة تفيد من الجهاز النظريّ السابق لتشخيص مآزق الترجمة ومضايقها وهناتها وأخطائها عن طريق امتحان عدد من تجارب الترجمة التي مارسها شعراء وكتّاب نذكر من بينهم عبد الرحمان بدوي وسعدي يوسف وخليل الخوري ومحسن بن حميدة وجبرا إبراهيم جبرا وفؤاد رفقة وأدونيس وغيرهم. «حصّةُ الغريب» أطروحةٌ موسوعيّة بكلّ ما تعنيه العبارة من شموليّة وتخصيص وبكلّ ما تتطلّبه الأطروحات من اقتراحات فكريّة وحدوس طريفة وابتكارات شخصيّة مبنيّة على البرهنة. وهي إلى ذلك كتابٌ «مرجعٌ» شبيهٌ بأوركسترا تتناغم فيها العلوم والنصوص والأزمنة، لم يتحسّب مؤلّفُه من تأليفه برؤية المغامر المبدع ولم يدّخر جهدًا في تدقيقه بصرامة الباحث العالم، فإذا نحنُ أمام أثرٍ تجتمع فيه موهبةُ الشاعر المترجم وفطنةُ المفكّر المتفلسف وثقافةُ المتعمّق الذي يطرح سؤال الترجمة في ضوء كلّ ما تطرحه العلوم الإنسانيّة من أسئلة، بدايةً من علم الإناسة وعلم النفس وصولاً إلى تاريخ السياسة والأدب. صدر هذا الكتاب في نسخته العربيّة بترجمة أستاذ الفلسفة والباحث المغربيّ محمد آيت حنّا، مع تولّي المؤلّف المراجعة. وليس من شكّ في أنّ عرض كتاب يُعنَى بالترجمة يتطلّبُ بالضرورة انتباهًا إلى عمل المُترجم. خاصّةً والأمر متعلّقٌ بعملٍ كدتُ أتولّى تعريبه عند صدوره لولا ظروف طارئة. وأعترف بأنّي ما أن علمتُ بصدوره في العربيّة حتى طلبتُه وكلّي فضول إلى معرفة نتيجة الرهان. فليس من رهان أكبر من ترجمة عملٍ بمثل هذه الكثافة لمؤلّف يمارس الترجمة ويحذق اللغتين. وأزعمُ بعد قراءة الكتاب أنّ المترجم كسبَ الرهان حقًّا وأحسن ضيافة عمل كاظم جهاد في عربيّة دقيقة سلسة لا عداوة فيها بين الطاقة التخييليّة والشحنة الفكريّة ولا خصومة فيها بين خصوبة الإيحاء وصرامة الأداء. لذلك لا أريد أن أختم هذا العرض السريع دون تحيّة المترجم. علمًا بأنّ حضور المؤلّف واستعداده للمساعدة أو المراجعة، ليس نعمةً بالضرورة، خاصّةً إذا كان العملُ لكاتبٍ مُترجِمٍ صعب المراس شديد القسوة على الآخرين قسوتَهُ على نفسه، ترقى الترجمة لديه إلى مستوى التحقيق، فإذا هو ينحت ويوقّع ويمحّص ويُطارد المعادِلات والنظائر ولا يطمئنّ إلى خيارٍ إلاّ أعاد فيه النظر وامتحنه إلى ما لا نهاية، في سبيل ذلك المستحيل الذي لا مناص من طلبه وكأنّه المُمكن.