انطلقت أمس الحملة الانتخابيّة للمجلس الوطني التأسيسي ومعها تحوّلت الديمقراطية من الشعار والخطاب الدعائي إلى الفعل الميداني والممارسة العمليّة. منذ 14 جانفي الفارط والأحزاب ومختلف الفاعلين السياسيين يخطبون في مجال الديمقراطيّة والإيمان بالتعدديّة والقبول بالآخر وكانوا دوما يُردّدون أنّ هدفهم «الاستراتيجي» هو القطع مع ممارسات الماضي وسلوكاته التي كثيرا ما تميّزت بالإقصاء وهيمنة الحزب والخطاب الواحد وغياب التعدّد الحقيقي على مستوى المشهد السياسي مثلما هو واقع ضرورة في المجتمع. واليوم ومع انفتاح السجال الانتخابي بما فيه من أنشطة ميدانية واجتماعات وتحرّكات وتوزيع للبيانات الانتخابيّة وتعليق للمعلّقات واتصال المواطنين ستنكشفُ الصورة على ما هي عليه من حقيقة تطابق خطاب مختلف السياسيين مع الواقع الّذي بدأنا نتلمّس بدايته منذ فجر يوم أمس السبت. تونس على أبواب أن تحيا تجربة ديمقراطيّة حقيقيّة بالنجاح في الوصول إلى موعد 23 أكتوبر ، صحيح أنّه وككلّ سباق انتخابي فإنه من الطبيعي أن تحدث بعض التجاوزات أو الخلافات ولكن من المهم أن تبقى تلك الإشكالات الانتخابيّة في دائرة التنافس وأن يخضع أصحابها جميعا لسلطة القانون ولضوابط السلوك الديمقراطي النزيه والشفّاف. قبل حتّى يوم الاقتراع وفرز الأصوات والإعلان عن المتوّجين فإنّ المترشحين سيكونون طيلة الحملة الانتخابيّة في أكبر اختبار وهو أن يؤكّدوا التزامهم بالديمقراطية والتعدديّة فعلا لا قولا فحسب ، وسيتجلّى ذلك كلّه من خلال ما سيبرمجونه من أنشطة وفعاليات وما سيُعبّرون عنه من برامج ومقترحات وتصوّرات للتأسيس لتونسالجديدة التي ينشدُها كلّ الشعب. ولا خيار أمام المترشحين إلاّ الالتزام بكلّ المبادئ والضوابط التي حدّدها القانون الانتخابي وما تعارفت عليه التجارب الديمقراطيّة في العالم من ابتعاد عن مظاهر العنف والهيمنة والتضييق على الخصوم والمنافسين أو اعتماد أساليب الدعاية غير القانونيّة ، وسيكون المراقبون والملاحظون من تونس وخارجها بالمرصاد لنمط السلوك الّذي سيعتمدهُ المتنافسون فإمّا أن ينالوا الاستحسان فيكونون بذلك في صف الديمقراطيين أو بعكس ذلك ينهارون إلى خانة غير الديمقراطيين وفي ذلك ستكون خيبة المساعى. لا طريق أمام المترشحين غير التقيّد بنواميس الفعل الديمقراطي وتجسيده أمام أنظار المراقبين وبذلك سيكونون في مرمى أنظار الناخبين واختيارهم يوم الاقتراع ، فمن المؤكّد أنّ المواطن سيكون مهتمّا بما يجري في الحملات الدعائيّة من وقائع وأحداث ومستجدّات لينطلق بعد ذلك في تحديد اختياره الانتخابي ، وقد أكّدت آخر عمليات سبر الآراء أنّ أكثر من نصف التونسيين لم يحدّدوا بعد وجهتهم الانتخابيّة، وهو ما يُتيحُ أمام المترشحين فرصة لكسب ودّ هؤلاء ولا يُمكن أن يتمّ ذلك إلاّ عبر الفعل الديمقراطي والسلوك الحضاري. إنّ الحملة الانتخابيّة هي المحرار الرئيسي لتقييم مدى لا فقط وعي الفاعليين السياسيين بالممارسة الديمقراطيّة بل كذلك مدى ممارستهم لتلك الديمقراطيّة وتكريس مبادئها وأصولها على أرض الواقع وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. إنّها لحظة فارقة في تاريخ تونس ، لحظة التأسيس الفعلي للديمقراطيّة والتعدديّة والقطع النهائي مع الهيمنة والرأي الواحد والصوت الواحد.