انطلقت إذنْ الحملةُ الممهّدةُ لانتخاب المجلس التأسيسيّ والتي تهمّ حوالي 10937 مترشّحًا ومترشّحة في حوالي 1424 قائمة حزبيّة ومستقلّة وائتلافيّة، وأشرعت مختلف الفضاءات العموميّة أبوابها لمختلف أنواع الأنشطة، وأخذت البلاد تعيش على إيقاع الحملة على الرغم من ضيق الوقت وقلّة ذات اليد. قد يبدو الأمر طبيعيًّا للملاحظين من بعيد. وقد يراهُ البعض ترفًا لا لزوم له بالنظر إلى وضع البلاد وطبيعة اللعبة السياسيّة الغالبة على المرحلة. وقد يتمنّى آخرون للمتنافسين حظًّا سعيدًا وحملةً موفّقة راجين أن تتمّ الأمور وفق القواعد المُحدّدة وفي ظروف ملائمة. وقد يذكّرُنا البعضُ بأنّ الحملات الانتخابيّة ليست غايةً في ذاتها بل هي مجرّد جسر بين الناخب ومرشّحيه ومجرّد وسيلة لتعريف الناخب بالأشخاص والمضامين. كلّ هذا جائزٌ ومعقول. إلاّ أنّه لا يُلغي كونَ هذه الحملة تحديدًا، مختلفة، وغير مسبوقة، وذات مذاق خاصّ، ولا تشبه أيّ حملة انتخابيّة أخرى. لأنّها ببساطة، أوّل حملة انتخابيّة من نوعها يعرفها شعبنا منذ خمسين سنة على الأقلّ. وفي هذا وحده ما يكفي كي نتحمّس لها وكي نفرح بها وكي نأمل أن يعمل الجميع على إنجاحها بما يجعلها إنجازًا في حدّ ذاته. الأمر الذي لا يعني عدم الانتباه إلى المآخذ والسلبيّات التي قد تلقي بظلالها على مجريات الأمور ومستقبلها. إذ من الصعب أن تكون هذه الحملة مثاليّة، وليست المثاليّة من شأن أيّ حملة انتخابيّة في أيّ بلدٍ في العالم. بل إنّ من غير المعقول مُطالبتُها بذلك بعد كلّ هذه العقود من الحزب الواحد والتسيُّس المغشوش، أو لنقل بعد كلّ هذه العقود من الفقر الانتخابيّ المدقع الذي جعلنا غرباء عن أيّ تقاليد حقيقيّة في هذا المجال. ومن الطبيعيّ نتيجةً لذلك أن نجد القوائم المترشّحة تنطلق في هذه الحملة من مواقع وبإمكانيّات مختلفة بعيدًا عن مبدأ تكافؤ الفُرَص. فللبعض تاريخ بينما ليس للبعض الآخر غير الوعود. وللبعض قاعدة إيديولوجيّة أو عقائديّة بينما لا معوّلَ للبعض الآخر غيرُ العصبيّة الأُسَريّة والعشائريّة والجهويّة. دون أن ننسى حضور المال السياسيّ بشكل متفاوت يثير أكثر من سؤال بما يوفّرهُ للبعض دون البعض الآخر من لوبيات ومنابر إعلاميّة وبهرج دعائيّ وجاذبيّة منفعيّة إلخ... إلاّ أنّ الأهمّ في نظري يتعلّق بالهوّة الفاصلة بين طبيعة هذه الحملة وطبيعة الاستحقاق. إذ ليس من شيء يدلّ حتى الآن على أنّ ثمّة انتباهًا إلى ضرورة اختلاف الوسائل والرؤى كلّما اختلفت الاستحقاقات الانتخابيّة. عندما ننتخب برلمانًا فإنّنا نختار مشرّعين لفترة نيابيّة محدّدة كي يحوّلوا برامجهم الحزبيّة التي انتخبناهم على أساسها إلى نصوص. وإذا «جُرِّبُوا ولم يصحّوا» فإنّ في وسعنا تغييرهم في انتخابات أخرى. أمّا المجلس التأسيسيّ فإنّ دوره الأساسيّ كتابة الدستور. والدستور نصّ جامع يعبّر عن الجميع وليس من شأنه أن يُكتَب وفق برنامج هذا الحزب أو ذاك. من ثمّ يختلف «بروفايل» النائب في المجلس التأسيسيّ عن الملامح المطلوبة في نظيره البرلمانيّ ويحتلّ العمق الفكريّ للمترشّح موقعًا أهمّ من البعد السياسيّ المحض. وتختلف تبعًا لذلك ملامح الحملة الانتخابيّة لكلّ من الاستحقاقين إذ لا مكان هنا لما يشوب الحملات «العاديّة» من مغريات الوجاهة والثراء والحضور الإعلاميّ إلخ. وهي كلّها «ناجعة» انتخابيًّا إلاّ أنّها ليست مكتفية بذاتها وليست حجّة على الكفاءة. المشكلة أنّ الفرق شاسع بين الواقع والنظريّة. فلا ملامح الحملة الانتخابيّة الحاليّة ولا طريقة الاقتراع التي تمّ فرضُها على الناخبين يمكّنان من اختيار النوّاب انطلاقًا من ثقة حقيقيّة في كفاءتهم. والنتيجة، مع احترام الاستثناءات، أنّ الناخب مُضطرٌّ إلى التصويت لقوائم لا يعرف أكثر أعضائها، وقد يكون اختيار «رؤوسها» مبنيًّا على دوافع لا علاقة لها بالموضوع. ثمّة طبعًا مترشّحات ومترشّحون أكفاء ضمن القائمات الحزبيّة والمستقلّة. والأمل كلّ الأمل أن تحصل المعجزة وأن يهتدي الشعب إلى التصويت لأكبر عدد منهم، أي للأكثر كفاءةً وللأقلّ تحزّبًا في هذه المرحلة تحديدًا، كي لا يدخلَ المجلسَ من «يُفتي» في مصير البلاد عن طريق «الحاكوم» أو «الريموت كونترول»، أي بواسطة التحكّم عن بعد. وفي انتظار ذلك لنتفاءلْ قدر المُستطاع ولنعتبر هذه الحملة فرصةً لفرحٍ طال انتظارُه. ألسنا مقبلين على أوّل انتخابات نجهل نتائجها؟ ألسنا مُقبلين على أوّل جرعة من التشويق الانتخابيّ الذي لم نتذوّقه من قبل؟