ما يزال الوضع العام في البلاد لا يُنبئ بحالة مستقرّة، إذ تتصاعد بين الفينة والأخرى مشاهد التوتّر والاهتزاز السياسي والأمني والاجتماعي وهو ما يطرحُ الأسئلة حول أسباب غياب العناصر المؤهلّة لتحقيق الوفاق والتخلّص من كلّ عوامل الاضطراب برغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر ونصف عن رحيل النظام السابق. الجامع في مشاهد التوتّر أين كان موضعها أو مجالها وأيّا كانت أطرافها هو انعدام الثقة ووجود حالة من الضبابيّة المتلبّسة حتّى بحقيقة الأحداث والمواقف والآراء والتصوّرات التي تشهدها البلاد أو يعبّر عنها هذا الطرف أو ذاك. إنّ انفتاح الحياة العامة في بلادنا على باب الإشاعة والأخبار الزائفة والاتهامات الجزافيّة وسلوكات الإقصاء والتشفّي والرغبة في نيل مكاسب حزبيّة وفئويّة ضيّقة أو مصالح شخصيّة ، كلّها عناصر تدفع إلى انتشار شعور التشكيك في نوايا ومنطلقات ومواقف الآخرين ويكرّس شيئا فشيئا حالة من القطيعة بين مكوّنات المجتمع المختلفة ويُفاقم من مخاطر الفتن وأتون الصراعات الجانبيّة التي لا تخدم التوجّهات العامة للثورة وأهدافها النبيلة في القطع مع الماضي والتأسيس لحالة جديدة من العدالة والديمقراطية والكرامة والحريّة والمساواة. ومن المؤكّد أنّ حالة التطاحن الموجودة بين النخب والأحزاب والقادة السياسيين والشخصيات الوطنيّة عبر وسائل الإعلام أو في الفضاءات العامة تبقى من أكبر التهديدات للحالة المجتمعيّة ككل، إذ لا يمكن بحال من الأحوال نكران أو تجاهل التأثيرات الآنية والمباشرة لصراعات هؤلاء على توجهات الرأي العام وعامّة الناس. إنّ ما تحتاجهُ بلادنا في مثل هذه المرحلة الانتقاليّة الفارقة هو أن تجسّد تلك النخب وتلك الأحزاب وتلك الشخصيات حالة وفاقيّة توفّر قدرا من الطمأنينة لدى الناس من كلّ الفئات وفي كلّ جهات البلاد ، وما يحتاجه ذلك الوفاق هو ترسيخ عامل الثقة والمُصارحة بعيدا عن كلّ مظاهر التعمية أو المغالطة أو التوجيه أو الحسابات الشخصيّة الضيّقة. ما هو مؤكّد اليوم ، أنّ تونس ما بعد الثورة لن تكون مستعدّة للعودة إلى الوراء وأنّ الشعب الذي خبر لسنوات طويلة الظلم والقهر والغبن السياسي والاجتماعي لن يسمح بإعادة استنبات مثيل لتلك الأوضاع تحت أيّ مسمّى ومن المؤلم أن لا تنخرط كلّ النخب والأحزاب وفعاليات المجتمع المدني موحّدة في إطار شفّاف ومُصارحة حقيقيّة ليس لها من نهاية غير بلوغ كشف الحقائق والملفات وتحقيق الإنصاف لكلّ المظلومين وفتح الطريق أمام مُصالحة وطنيّة شاملة تدفع بالثورة إلى تحقيق أهدافها كاملة دون نقصان.