تعد فترة «التقاعد» من أبرز المراحل الفارقة دون منازع لذلك تكون غالبا محفوفة بتغيير واضح في السلوكيات والاختيارات خاصة بعد سنوات من طرق معترك المجال المهني الاجتماعي وربما قد تؤجل إلى سنوات طويلة في حال اختيار الأشغال الحرة. «الشروق» خرجت إلى الشارع بجهة بنزرت وبحثت في الظاهرة عبر طرح السؤال التالي كيف يتعاطى التونسي مع فترة التقاعد وأي مجالات وفضاءات تستهوي فترة فراغه الجديد... «كل ميولاته في كيفية قضاء فترة التقاعد بعد ان كان العمل يستقطب فيها الى وقت قريب اغلب ساعات يوم». وقد تتوزع من وجهة نظري الخاصة الاختيارات مابين الرغبة في الاشتغال على المذكرات لدى البعض كمصدر لتدوين مابقي بالذاكرة لدى البعض ومابين تعميق الدراسات والبحوث في بعض المجالات المعرفية لمن لم يتوفر له في السابق متسع من الوقت لممارسة مثل هذه الأنشطة.... .وشخصيا ومن منطلق اهتمامي بالمجال الثقافي فاني اهتم بعد خمس سنوات من مباشرة التقاعد بالمطالعة والبحوث الافتراضية والدراسات. ولكن مع هذا من المسائل التي تبقى في حاجة أكيدة للمراجعة تفعيل اكبر لدور الجمعيات في تونس حتى يحسن الإحاطة اكبر بفئة المتقاعدين ولبث الوعي بأهمية وايجابية مثل هذه الفترات. ... .بهذه العبارات أراد السيد «منصف ملوحي» معلم تطبيق متقاعد منذ خمس سنوات ان يعبر عن رأيه في الموضوع.... .. فترة للراحة...مأزق الفراغ هاجس الراحة والنقاهة وأهمية الوقت بعيدا عن الضغوطات العملية بعد اعوام من خوض تجربة الحياة المهنية شكلت لدى عدد كبير ممن تحدث إلينا حول المسألة رمزية مثل هذه الفترة الجديدة حيث اعتبر السيد «حمد عثماني» متقاعد منذ سنتين بعد ان شغل خطة موظف بشركة انه «مع مغريات عدد من عروض الشغل الإضافي لدى بعض الشركات الخاصة فاني خيرت التمتع بفترة التقاعد بعيدا عن الارتباطات المهنية وان اتخذت بعدا وقتيا.... وأن مرحلة التقاعد عليها ان تكون ذات هدف أساسي الراحة بصفة أولية وممارسة بحرية وفي حيز زمني اكبر عدد من الهوايات البسيطة والأنشطة الشخصية منها العناية بالحديقة إلى جانب الالتزامات العائلية العادية وذلك رغم ان البعض يحبذ اختيار ملاجئ أخرى على غرار الاهتمام بمجالي الفلاحة والتجارة»..... وهو تقريبا ذات الموقف الذي عبر عنه السيد «سمير الجبالي» بناء يرتقب الدخول في فترة التقاعد الذي لم تعد تفصله عنها إلاّ قرابة الخمس سنوات حيث أضاف «فترة التقاعد تبقى بالضرورة بهدف الراحة بامتياز باعتبار ما قد يصاحب سنوات العمل الطوال في بعض المهن من مضاعفات صحية ومن ضعف القدرات الجسدية للإنسان. ولذلك فأنها تشكل بالنسبة لي فترة للتفرغ لقضاء في وقت أرحب شؤون عائلية بعيدا عن خيار الأعمال والمهن الإضافية التي قد تكون الاختيار الآخر للبعض من المتقاعدين ربما لظروف عائلية أو لقتل الوقت والخروج من حالة القلق ومن روتين المرحلة الجديدة»... كما أفاد السيد «حامد بوسعدون» متقاعد منذ سنتين بعد أن امتهن عامل صيانة بالشركة التونسية للكهرباء والغاز ان «الفترة الحالية تبقى مخصصة للتفرغ للشؤون العائلية بصفة أوفر والراحة بعد قضاء سنوات في العمل.... واعتبارا لطبيعة الحرفة التي كنت امتهنها فان اغلب فترات وقتي الحر من اليوم تبقى مخصصة للقيام بأشغال صيانة يدوية بالأساس بالمسكن »... وتمثل الأسواق إضافة إلى المقاهي ابرز الفضاءات التي عادة مايشد إليها المتقاعدون الرحال بين فترات اليوم بالجهة وذلك وفقا لما أدلى لنا به معظم من تحدثنا إليهم من هذه الفئة.... . وفي هذا الإطار عبر السيد «علي الذوادي» متقاعد منذ سنتين بعد ان شغل خطة سائق بالشركة التونسية للمعادن لأعوام انه «ومع اقتران مثل هذه الفترات بمطلب الراحة فإنني أشعر بالروتين والقلق بعد ان تمتعت منذ فترة بإجراء التقاعد عن العمل ومع اختلاف الإمكانيات المتوفرة فان اغلب أوقات الفراغ بالنسبة لي إلى جانب قضاء عدد من الشؤون العائلية من التبضع والتسوق في ارتياد المقهى الذي أضحى من كبرى المنتديات أو الملتقيات التي يقصدها غالبا المتقاعد لفترات هامة من اليوم. ... لكن يظل من الضروري هنا مع افتقار الجهة لفضاءات ترفيهية بصفة عامة العمل على احداث ناد خاص بالمتقاعد قصد الإحاطة بمثل هذه الفئة من المجتمع...». وغير بعيد عنه اعتبر المتقاعد السيد «رشيد تومي» موظف بشركة متقاعد منذ 2006 في تفاعل كبير مع المسألة المطروحة ان «فترة التقاعد لايمكن أن تخرج عن حال«موت قاعد» للمتقاعد لاسيما في ظل غياب نواد تعنى بالإحاطة بهذه الفئة من المجتمع على غرار ما هو متعارف عليه من تقاليد بعدد من البلدان الأوروبية وذلك بعد ان همش العمل الجمعياتي مع فترة النضام البائد وأصبحت المنظمات والجمعيات من المجتمع المدني مسيسة وأشبه بما يعرف بالشعب بدورها.... » وكان السيد «حامد الذيبي»متقاعد منذ ست سنوات من سلك جيش الطيران أورد ان «من الأوصاف لفترة التقاعد في عيون التونسي «ميت قاعد» حيث ان اغلب الفضاءات التي يؤمها المتقاعد بالجهة جراء فقدان لفضاءات خاصة بهذه الفئة ولتاطير اجتماعها في نواد هي المقاهي في معظم الأحيان حيث يكون قضاء وقت الفراغ في لعب «الكارطة» و«الدردشة» مع الأصدقاء وذلك مع اضطرار البعض من المتقاعدين في بعض الحالات ولظروف خاصة للعمل الإضافي»... القانون الأساسي للتقاعد.... وبعث المشروع وبعد مسألة مدى حضور المتقاعد مابعد فترة التقاعد في أصناف معينة من الأشغال ألقت بظلالها على هامش إثارتنا للموضوع حيث توزعت ردود الفعل بين عدم الرفض والقبول لمثل هذه الاختيارات التي قد تتخذ خلفيات اضطرارية اعتبارا لضعف أصناف من الجرايات وثقل أعباء الحياة والالتزامات المهنية لسنوات متقدمة من عمر الإنسان في بعض الحالات إضافة إلى رغبة شخصية لدى البعض الأخر... وفي هذا الصدد وصف السيد «خميس بن عمار» مدير مدرسة متقاعد منذ خمس سنوات انه «مع اعتبار ان الفترة المتعارف عليها بالتقاعد ترمي إلى اخذ أقساط من الراحة والرفاهة بعد سنوات من طرق الحياة المهنية نحو فسح المجال لفئة الشباب للتمتع بحق الشغل وحظ الوظيفة فان من الملاحظات الأساسية هنا مراجعة القانون الأساسي المتعلق بإسداء الجرايات الخاصة بالتقاعد حتى لا يضطر المتقاعد للعودة من جديد إلى أشغال الشباب أجدر من ان يمتهنها.... كما أن الدعوة تبقى أكيدة إلى تفعيل دور الجمعيات ذات الصبغة الخيرية والتطوعية نحو حسن استغلال المتقاعد لأوقات الفراغ والاستفادة من خبراته.... .» وهو تقريبا نفس الموقف للسيد «زهير بن فرج» الذي دخل منذ قرابة الثمانية اشهر في فترة التقاعد بعد ان شغل موظفا بإحدى المؤسسات بالجهة حيث أوضح ان «الفترة الحالية تبقى للراحة بعيدا عن شواغل مهنية وللتأقلم من جديد بعد جملة المتغيرات المصاحبة مع المحيط الاجتماعي بعد سنوات اعتاد فيها الإنسان على نسق معين في المعاملات وتوزيع الوقت على ساعات اليوم الواحد.... »وكان السيد «يوسف الطرابلسي» يشغل خطة ميكانيكي بشركة خاصة في ميدان البترول بالجهة وينتظر التمتع بالتقاعد بعد قرابة 12 عاما قد اكتفى بان وصف « ان الراحة تبقى هاجس الإنسان بعد تقدمه في السن بدرجة كبرى ومن الضرورة إعطاء فرصة عمل للشباب وذلك بعد أن تسعى بعض الشركات في إطار إجراء مايعرف بالباتيندا الى مزيد التعويل على فئة المتقاعد بجرايات تفاضلية ودون السعي إلى فسح انتداب للشباب وهي من العادات التي تم ترسيخها مع الطرابلسية منذ أعوام.» بعض من تحدث الينا كان لهم رأي مغاير من الظاهرة المتصلة بتواصل عمل المتقاعد الى مابعد السن العادية ولاسيما اذا ماتعلق الامر بحافز الهواية الذي يبرر بعث بعض المشاريع الصغرى من ورشات في الحرف وغيرها وفي هذا الإطار أشارت السيدة«خيرة عثماني»موظفة بوزارة التجارة ان «من مجالات الاهتمام التي تبقى مؤجلة الى فترة التقاعد التي لم تعد تفصلني عنها الا سبع سنوات القيام بفريضة الحج وزيارات لبعض الأقارب الذين تبعد عنهم المسافات. كما ان من المشاريع المرتقبة بعث ورشة خاصة في الصناعات التقليدية احياء للحرفة وخلق مواطن شغل إضافية والسعي الى تكوين الشباب بعيدا عن غلق الباب امام حظوظ هذه الفئة في المبادرة والانتصاب للحساب الخاص او بمنطق اخر «يأكل الدنيا ويسحر بالآخرة « لاسيما بابتعاد المنافسة عن القطاعين الخاص والعام.... ». وهو تقريبا ذات الموقف الذي عبر عنه السيد «محمد شرودة» تاجر مبتسما: « الحديث عن انطلاق فترة التقاعد يبقى رهين طبيعة المهنة في حد ذاتها ومن هذا المنظور فان مدى توفر الوقت الحر تبقى هي المقياس والفيصل بين من يمتهن الوظيفة العامة ومن يشتغل في مجالات حرة على غرار التجارة حيث يصبح من غير المنطقي طرح موعد للتقاعد بصفة محددة لاعتبارات عدة منها توفير مواطن رزق إضافية وتقاليد الحرفة في حد ذاتها التي تجعل من القلب دائم الحيوية»... هل أصبحت الشيخوخة والتقاعد أمرا مخيفا؟؟ وحول الظاهرة أفادنا الدكتور «جابر القفصي» الباحث في علم الاجتماع بالتوضيح التالي: «لا نشك ان نمط الحياة المعاصرة والمرور من نمط العائلة الموسعة الى الأسرة الضيقة وترهل الروابط الأسرية بحكم البعد الجغرافي وكثرة مشاغل الحياة اليومية وسيادة قيم الفردانية واحترام حميميات الحياة الخاصة كان لها الاثر السلبي البالغ على فئة الشيوخ والمسننين... وعلى كل حال المجتمع التونسي تطور كثيرا وخرجنا نسبيا من مرحلة تبعية الآباء ماديا لأبنائهم نظرا لوجود نظام تقاعد يكفل لهم رغد العيش بعد الانقطاع عن العمل وأصبح اليوم من الضروري التفكير والتخطيط والبرمجة لإنجاح هذه المرحلة من العمر واتمام الرحلة بسلام وفي ظروف مريحة. وهذا يعد له قبل التقاعد من الحرص على حفظ الصحة ومراقبتها وإتباع نظام غذائي سليم وممارسة رياضة المشي وتجنب أسباب التوتر والغضب والحزن إضافة الى حسن التصرف في الموارد المالية حتى اذا ما حل اي طارئ صحي يستطيع معالجته في الحال ولا يضيع الوقت في انتظار تدخل الأبناء.... يمكن اليوم لتونس ان تستفيد ايما استفادة من خبرة وخدمات الجيل السابق من المتقاعدين وإدماجهم في مراكز تكوين للشباب ونقل خبراتهم وفق نسق ميسر وغير ضاغط على حياتهم الخاصة. ومن المفيد والمحبذ للمتقاعد رجلا وامرأة ان يشغل وقته في نشاط اجتماعي اوخيري اوترفيهي او رياضي بناء وان لا يستسلم للبيت والاريكة والفراش وان ينتمي الى جمعيات متقاعدين تنظم رحلات واقامات في نزل والتعرف على خصائص مدن وقرى بلادهم ويمكن ان يكون لهؤلاء دور مهم في تنشيط السياحة الداخلية خاصة في فصلي الخريف والشتاء حيث تراجع النشاط السياحي وهذا يرفه عن حالاتهم ويخدم الاقتصاد الوطني ويوفر مواطن شغل... ليس هنالك وصفة سحرية لإنجاح هذه المرحلة من العمر ولكن المهم ان يحافظ الإنسان على ديناميكيته وان لا يستسلم للعطالة وعدم النشاط وان يعيش أيامه بغرام ومتعة وتفاؤل. ومما لا شك فيه ان الوازع الديني يساعد كثيرافي هذا المجال ويمنح شعورا بالرضا على الذات وبالطمأنينة وعدم الخوف من حلول الاجل ويشجع على مزيد فعل الخير ونيل الثواب والإصلاح في الأرض ويحول دون السلبية والرضوخ للأمر الواقع والاكتآب والتقوقع على الذات «واكل القوت وانتظار الموت» هذا في الحقيقة ملف كبير يحتاج إلى كثير من النقاش والتخطيط والهياكل والجمعيات الأهلية والبرامج».