احتضن المعهد العالي للفنون والحرف بقابس ومقر جمعية دار الفنون تظاهرة علمية فنية بعنوان «الثورة من منظور جمالي» وتم في حصتها الصباحية تقديم ثلاث مداخلات لكل من حافظ عبد الرحيم مدير المعهد والدكتور سالم الابيض وحسن التومي. في كلمته الافتتاحية بين مدير المعهد العالي للفنون والحرف بقابس ان أي ثورة هي رد فعل تغييري يسعى الى القطع مع السائد ويروم التأسيس للجديد ليس من حيث البنى والهياكل الاجتماعية والسياسية والثقافية فحسب بل وايضا في علاقات الناس ومعيشتهم ومتخيلهم وقيمهم وهو ما يجعل الفعل التغييري في عمقه فعلا ابداعيا له جماليته الكامنة في اغلب الاحيان والظاهرة في احيان قليلة. ويؤكد حافظ عبد الرحيم انه وبعد انتهاء الثورة وعودة الحياة الى طبيعتها يبدا عمل المبدع من جديد ليرصد ويحلل ويعبر باعتباره ضمير المجتمع وتتوسع رسالته وتتجاوز رصد الموجود الى ملامسة المنشود فالمسرحي والرسام والنحات والسينمائي والموسيقي يسعون لاثبات حضور الفكر في ما يجري حوله زمانا ومكانا ليلعب دور الشاهد على ما حدث وقد أثبتت التجارب الثورية العالمية السابقة انه كلما زادت المسافة الزمنية بين الحدث الثوري ولحظة تجسيم الابداع كلما كان موقف المبدع انضج واقدر على القراءة والتحليل والتفسير والفهم وبناء نموذج للمستقبل. مداخلة دكتور علم الاجتماع السياسي سالم الابيض تطرقت الى رمزية الثورة وانطلق فيها من محاولات الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة تحويل الجمهورية التونسية الى «جملكية» للحصول على مسوغ قانوني لحكم مدى الحياة وعلى دربه سار بن علي الذي قام بتنقيح الدستور وتزويره وتفصيله على مقاسه لضمان حكم دائم بغطاء قانوني وفي دراسة تاريخية حول التضحيات من اجل استقلال هذا البلد تثبت بما لا يدع مجالا للشك ان 90 % من التضحيات والشهداء كانوا من سكان الجهات الداخلية والبقية كانوا من المناطق الساحلية الممتدة ما بين بنقردان وطبرقة وهو ما تؤكده الانتفاضات الشعبية التي شهدتها تونس عبر تاريخها منذ سنة 1864 واولها انتفاضة علي بن غذاهم ضد قانون 1861 وانتهت باسقاط ذلك الدستور. وبالعودة الى انتفاضة سنة 1881 التي قادها علي بن خليفة النفاتي وتعرف بثورة القبائل التي انطلقت من القيروان فقد بدات من «الدواخل» وبقيت فيها وعندما نعود الى ثورة سنة 1906 التي قادها عمر بن عثمان في تالة والقصرين وعندما نتحدث عن انتفاضة سنة 1915 في منطقة تطاوين وبمساندة من الحامة وانتفاضة «المرازيق» سنة 1944 بقبلي ودوز ثم الثورات الداخلية المسلحة والحركة اليوسفية خلال خمسينيات القرن الماضي بداية من سنة 1952 الى حدود 1958 نجد ان رحاها تدور في المناطق الداخلية في الحامة وبني خداش وسليانة وغيرها. الانتفاضات التي وقعت في العهد البورقيبي انطلقت ايضا من «الدواخل» ففي سنة 1978 كانت الانتفاضة النقابية الكبرى وابرز مناطقها الحوض المنجمي وقفصة وانتفاضة 1984 جاءت من دوز في ديسمبر 1983 ثم توسعت إلى المدن المجاورة حتى وصلت الى العاصمة وانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 انطلقت من المدن الداخلية والثورة الأخيرة في 17 ديسمبر 2010 انطلقت شرارتها الأولى من سيدي بوزيد ثم توسعت لتشمل بقية المدن. السجل التاريخي للشهداء يثبت ان أكثر من 50 % من شهداء الانتفاضات والثورات التونسية من المناطق الداخلية بقطع النظر عن حجم مساهمات المناطق الاخرى في الحركات الاحتجاجية فان المنطلقات عادة ما تكون من الجهات الداخلية ولعله من المفارقات العجيبة ان الانظمة المتعاقبة من بورقيبة الى بن علي كانت تكافئ «الدواخل» بالتهميش التنموي فكانت حركة التنمية مختلة جدا رغم انها تتمتع باحسن الاراضي التونسية تربة ولكن السياسة المتبعة عادة تبدا بتكسير البنية الفلاحية التقليدية عن طريق تحويل سكان تلك المناطق الى عمال فلاحيين بعد سلبهم اراضيهم من قوى متنفذة اقتصاديا وماليا من متساكني الاحياء الراقية الكبرى بتونس العاصمة كالمرسى والمنار وبعد ان تحولهم الى عمال فلاحيين تقوم بتهجيرهم الى احواز المدن الكبرى لتقوم على اكتافهم توسعاتها ونمائها اقتصاديا فكانوا وقود تطور مدن صفاقس وسوسة وتونس ولكنهم لا يجنون الا التهميش. ويواصل دكتور علم الاجتماع السياسي حديثه عن رمزيات الثورة مبينا انها كسرت المنظومة الاعلامية التقليدية التي كانت قائمة على مؤسسة عمومية تتحكم فيها قوى متنفذة في البلاد توظفها لفائدتها فعندما قامت انتفاضة 17 ديسمبر وتحولت من بعد الى ثورة وصفها الاعلام الرسمي بانها «حركة مجرمين ملثمين خارجين عن القانون» وهو نفس الحقل الدلالي الذي استعمله بورقيبة بتسمية المقاومة الوطنية ضد الاستعمار «بالفلاقة» مع فرق بسيط هو ان بن علي استبدل هذه الكلمة «بالملثمين» و»المجرمين» و»الارهابيين». هذه المنظومة الاعلامية الرسمية كسرتها منظومة اعلامية جديدة غير رسمية هي منظومة «اعلام الثورة» وهي منظومة خارج نطاق السيطرة السياسية والقانونية للدولة وكانت تجري عبر المواقع الاجتماعية كال«الفايس بوك» و»التويتر» و«اليوتوب» وتنقل الاحداث اليومية ساعة بساعة الى الاعلام العالمي الذي وظفها رغم ان ناقلها الحقيقي لم يكن محميا قانونيا. بعد رمزي اخر ظهر خلال الثورة ويتعلق بالمنظومة اللغوية من خلال الشعارات المرفوعة حينها من قبيل «التشغيل استحقاق يا عصابة السراق» و«خبز وماء وبن علي لا» وغيرها مما يكسر ما يسمى في علم الالسنية ب«الامبريالية اللغوية» التي تقوم على قاعدة ان اللغة المسيطرة هي المرتبطة بالمجتمع الاقوى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا فهيمنة الانقليزية في عصرنا الحاضر دليل على هيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية وعندما تخرج الثورة من جهة غير محظوظة تنمويا كسيدي بوزيد وتصبح صورة البوعزيزي رمزا للثورة في اصقاع العالم فهذا جزء من تكسير الحد من هذه الامبريالية اللغوية بل ان بعض البلدان غير الناطقة باللغة العربية كانوا يرفعون شعار «الشعب يريد اسقاط الحكومة» بلكنة غربية.