غير أنّ هذه الشّهادة موسومة بوسم التقرير الّذي، يستدعي فيما يستدعي الصّيغة الخِطابيّة الجافّة والاخباريّة التي تقدّم مجموعة من المعلومات والبيانات الموضوعيّة لجهة ما، بما يتعارض في الظّاهر على الأقل مع انشائيّة الرّواية أو السّيرة الرّوائيّة.
وان كان بالامكان أن نلاحظ وبسهولة ظلال الروائي الشّهير نيكوس كزانتازاكي بكتابه «تقرير الى غريكو» الّذي حقّقه وترجمه ونشره ممدوح عدوان، والّذي ليس الآن مجال الحديث عنه. وللقارئ والنّاقد معا أن يستنتجا ما شاءا من وجوه التقارب أو التماثل أو التشابه أو حتى التنافر بين الكاتبين، خاصّة وأنّ «تقرير الى غريكو» بدوره من جنس السّيرة الذّاتية.
كما أنّ الملاحظ في هذا الجزء من سيرة الباردي أنّه قد تخفّف كثيرا من العتبات السّرديّة، اذ لا نجد غير اهداء واحد الى روح والدته، وكانت قد توفّيت الى رحمة اللّه قبل أن يصدر الكتابُ بأشهر قليلة. وجاء الاهداء كالتّالي: « الى روحها. أمّي. لماذا تتركينني وحيدا؟» ص4 وكان قد أهدى الجزء الأوّل الى روح والده. وبطبيعة الحال، كان الوالدان قد لعبا في النصين دورين مركزيين بما وجّه شخصيّة الكاتب الطفل والشاب والكهل نحو مسارب محدّدة من الحياة، ورسم ملامح حياته المقبلة.
ولو أردنا في عجالة هذا المقال أن نحدّد أهمّ مراكز الاهتمام في هذا «التقرير» لأشرنا الى عدد منها دون تبسّط أو توسّع، وقد ضربنا صفحا عن استعراض الفصول واحدا واحدا. ففي المحور الأوّل تحضر أيّام الدّراسة في المعهد الثانوي مطلع شباب الرّاوي وقد ميّزها أمران أساسيّان على الأقلّ، هما: الحديث عن التحصيل العلمي النّاجح، وقصص الحبّ التي أثارتها فتيات جميلات في قلوب زملائهنّ ومن بينهم الرّاوي. وكان قد عشق فاطمة الحمزاوي واستمرّ في عشقه لها حتى مرحلة متأخّرة من الدّراسة الجامعيّة دون أن يظفر بطبيعة الحال بشيء منها شأن أي عاشق رومنسي ومثالي يصطدم بعجرفة المحبوب وتعاليه دون طائل.
أمّا المحور الثّاني فتمثّل في العودة الى حياة البيت الّذي كان يقيم فيه الرّاوي، والّذي ظلّ مقيما فيه حتى الفترات الأولى من حياته المهنيّة كمدرس في المعاهد الثانوية أولا، ثم أستاذا في الجامعة التونسيّة ثانيا. وكان قد عاد الى التفاصيل شبه الفولكلوريّة التي كانت تدور في الحيّ. ورجع الحديث بالتالي الى شخصيّات ملأت فضاء الجزء الأول بحيويّتها واكتنازها الأسطوري، من قبيل جنّات العايبة وزوجها عمّ علي الحوذي (العفريت). ونور الدّين الجزّار، وقدّور رفيق الصّبا. الاّ أنّ هذه الشّخصيّات ستتطور بدورها وستتغيّر علاقاتها وملامحها بفعل الزّمن. وسينتهي الأمر ببعضها في وجهات من الحياة غير متوقّعة. فقدّور مثلا سيسافر الى ألمانيا بعد مغامرته مع السّائحة الألمانية جرمين بعد أن كان يتهيّأ للاقتران بسلمى بنت جنّات العايبة. غير أنّه، وأمام اغراء الهجرة الى أوروبّا، وربّما قبح المستقبل الّذي يراه في سلمى مقارنة بغواية السّائحة الأجنبيّة سيسافر دون حتى أن يعلن مجرّد الاعلان عن سفره، ليتحوّل الى عارض أزياء تأتي بأخباره مجلاّت الموضة الأجنبيّة تحت مسمّى كاداري بأسنان نضيدة وجسم مفتول، ولتتحوّل سلمى الى عرّافة تغمس نفسها في عالم الجنّ والعفاريت وتوجّه طاقتها الى صنعة ورثتها عن أبيها علي الحوذي. فتداوي المرضى من المهووسين والمصروعين والجهلة، من داخل المدينة ومن خارجها.
يتبع
تقرير الى عزيز، أو سيرة مدينة (سيرة ذاتية روائيّة) الكاتب محمّد الباردي. النّاشر: ضحى للنّشر والتوزيع 2012