هي السابعة والنصف مساء، مازالت مقاهي وحانات شارع الحبيب بورقيبة مفتوحة، مازالت تعج بزوارها ومازال يكتظ هذا الشارع «الرمز» في العاصمة، ولكن وما إن تبتعد قليلا عن وسط العاصمة وتعود بعد ساعة تقريبا، لا تجد أثرا للعباد، فقد ظلت الشوارع وحيدة مقفرة لا تحتضن سوى ساكني زواياها الجانبية. تبتعد قليلا عن الشارع «الرمز»، تسلك شارع فرنسا، ثم تقترب من نهج لينين وتعود عبر شارع «مرسيليا»، آه إن الحياة بدأت تدب، نعم هو الشارع الأكثر حيوية، فالأنوار كثيرة والعباد موجودون فرادى وجماعات، ولكن نظرهم يثير التساؤل للغريب عن هذا الشارع، فهل طالت الساعات ليصبحوا بطيئين هكذا؟ لماذا يتناقشون في تلك المواضيع غير المعتادة؟ أكيد هي الاجابة الأكثر سهولة«انها العاصمة ليلا». جميع العواصم تفتح أحضانها لزوارها وساكنيها ليلا نهارا، 24 ساعة تدب الحياة متنوعة، متحركة، اقتصادية، اجتماعية بكواليسها وحميميتها وبأشياء أخرى معروفة لذلك هي عواصم وهي مراكز الدول أما عندنا فالعكس فالساعة الآن التاسعة ليلا في منتصف شارع الحبيب بورقيبة بالتحديد تدور حول نفسك كالمجنون الحالم والملاحظ، فلا تبهرك سوى أنوار مصابيح الشارع الشاهدة على مرورك من هناك مع بعض المارة المسرعين وكأن فاتهم القطار دون أن ينتبهوا لك أكيد. «مقفرة» أغلقت جميع المحال التجارية دون استثناء، أقفلت أغلب المقاهي ويستعد العاملون بالبقية للاغلاق وبدأت الحانات أيضا بالاغلاق في شارع الحبيب بورقيبة، لتنتهي الحركة مع العاشرة ليلا. فما أن دقت الساعة العاشرة حتى تحولت العاصمة الى مسكن بعض «التاكسيات» الذين تتباطأ سرعة سياراتهم الصفراء الواضحة ليلا أيضا ما أن يرى السائق غريبا تقوده ساقاه وقد تكون «التاكسي» الحاجة في تلك اللحظة.. وقريبا من منعطف شارع فرنسا أين سكة الميترو الخفيف التي تستريح قليلا من حركة الميتروات يقف طابور من سيارات الأجرة، تنتظر كل منها قدر رحلتها الآتية. أهلا أخي «أعانك اللّه»، فيجيبك «تفضل، أين أنت ذاهب؟ لا لست ذاهبا الى أي مكان وإنما أردت سؤالك». ينظر لك سائق «التاكسي» من الفوق مرورا بكل قامتلك ويقول «تفضل» ليقول لك بعد دقائق «ان العاصمة مغلقة من المساء ونحن ننتظر عابر سبيل لعله انتهى من لقاء أصدقائه أو قضاء شأن ويبحث عن سيارة أجرة، فوسائل النقل قليلة في هذا الوقت» ونتمنى الالتقاء بأبناء الحلال، فقد أصبح العمل ليلا مخيفا، فمن يدري ما قد يحدث ومن أين يأتي البلاء، وأنت تنظر أن الشوارع «مقفرة» تقريبا. «بعد آخر» أعود قليلا الى جولتي القصيرة الأولى، فتشدني الأضواء والنقاشات والمواضيع «الهامة» جدا التي مررت عبرها، فأعود أدراجي الى شارع مرسيليا، أنطلق من بدايته، مرورا بمكتبة الكتاب وقد نامت كتبها واعتنقت رواياتها. غريب، لقد نامت الكتب والروايات الأصلية وأفاقت أخرى فهاهم ثالوث كهول، يعنفون موضوع «الثورة» ببطئ ونغم لا ندري مصدره يقفون ثلاثتهم غير آبهين بما حولهم مخدّرة أطرافهم فأنت تلحظهما من «النظرة الأولى» ولا تدري مصدر نغمهم. وغير بعيد يمر صديقان، هما صديقان فكل يعانق صديقه وما يتحركان، لا أدري لماذا تبرز أصواتهما، ولكن النغم مختلف أيضا، فهما يتغنّيان بنغم شديد الوعورة ك«الراي» الجزائري أو الفولكور الرديء المدجن بآلات غريبة ك«البطارية» و«الڤيتار» البريئان براءة الصديقين المتعانقين ولكن من أين يأتي النغم؟ فيجبرك الفضول الى التوجه الى مصدر الأنغام المختلفة لعلك «تعي من أين يأتي تعنيف البريئان لامرأة لا أدري ما فعلته لهما؟ آه إنها الأضواء، إنهم الحراس البدينون يفصلونك عن الأضواء وبعد الأضواء الضحكات العالية و«البطولات الكثيرة، أكيد لم تر أغلبها النور. تعود ساقي لتحملني الى «بعد آخر»، فأنا أقوم بعملي ويجب أن أنهيه، فالروبرتاج يجب أن يصور ما رأيت وما لاحظت في كل زاوية أبلغها من العاصمة ليلا. قليل هو الأمن لا الأمان تبتعد قليلا عن ذلك البعد الآخر، الذي يستحق عناء الاكتشاف تنطلق الى ساحة «الباساج»، لعلّ الأمر مختلف هناك، لعلّ الحياة ببعدها «المشترك» غير مفقودة هناك. ولكن وما ان تطل على الساحة حتى تجد سوى بعض «التائهين»، لا أدري... أو ساكني الشوارع أيضا لا أدري، يغطون في نوم متفرقين... كل اختار أين يسكن الليلة... وترى أقداما تسمع سرعة حركتها لافراد هم قلائل يمرون كل في اتجاه. أدخل المحطة، محطة الميترو الخفيف وقد اقتنيت تذكرتي للعودة للمنزل، فمن يدري قد تفوتني آخر سفرة يقوم بها الميترو لينزلني قريبا من منزلي فقد بلغت الساعة الحادية عشرة مساء وقليلا من الدقائق. مساء الخير أخي... يجيبك: مساء الخير بحذر يظهر من الوهلة الأولى تلاحظه... وقد فتح عينيه وبان بريقهما... ليحدثك بعد دقائق: «لقد أنهيت عملي في المقهى، مسحنا الطاولات والكراسي ونظفنا القاعة المغطاة تماما، ثم ها أنا أعود لأبنائي وزوجتي». «الناس تخاف ليلا من الدخول الى العاصمة، فالسكارى كثيرون وساعات الليل هي وقت النشاط المفضل للمجرمين، ورغم أن الأمن موجود بقلة، فليس هناك أمان يا أخي»، يجيبك النادل الذي يهم للعودة الى منزله بعد يوم شاق من العمل. دقائق معدودة، لقد أتى الميترو لحسن الحظ سأعود باكرا وهذا يعجبني، فأنا أستيقظ باكرا، كأغلب العاملين والموظفين في هذا الوطن ويعجبني «البعد المشترك»، فقد افتقدت حقيقة هذه الليلة غليان العاصمة المتكرّر منذ أول ساعات الصباح الى حدود انطلاق الليل رسميا. مناضلون ما أن تأخذ مكانا شاغرا هذه المرة، في الميترو وينطلق يعود بك الى منزلك..رفعت رأسي من النافذة، فأرى عالما آخر لم أشاهده في جولتي، رجل وعربته الخضراء يتسامران على حافة الطريق، يتحدثان يتكاملان يحملان هما مشتركا هو تنظيف الطرقات الوسخة للأسف. رجل التنظيف الشهم وخادم الناس ومنظف أوساخهم يعمل بكد وجهد دون انقطاع الى أن انقطعت أخباره ولم أعد أراه من نافذة «الميترو» ليوقظني لحظات قليلة وقرب ساحة برشلونة أين المحطة الرئيسية للحافلات والميترو «دخان كثيف» من عربة أيضا، يشوى عليها بعض النقانق «المرقاز» يتلاهف عليه مريدوه الجوعى، فقد يكون ألذ من غلال البحر في تلك اللحظة. هم مناضلون وعرباتهم رمز.. يعرف قيمتهم جميع التونسيين، فهل يجوز أن تذكرت لحظتها «بومة مينرفا التي لا تحلق إلا عند الغسق».. لا لقد بلغت ثانية النزول «آسف يا هيڤل، فأنت غريب عندنا».