كما شهدت حياة الرّاوي الخاصّة تحوّلات في مستوى علاقته بمن كان يحيط به من الجيران والجدّ والخال والأب والأمّ. وكان ذلك أمرا طبيعيا بعد أن تحول شيئا فشيئا إلى رجل صقلت شخصيّته ثقافة جامعيّة
وأوقرَ مكانتَه في أعين النّاس عملٌ محترم في التعليم الثّانوي ثمّ الجامعي. وهو ما سيقوده هو نفسه وبالتدريج إلى النّظر إلى محيط الحيّ على أنّه في النهاية ليس إلاّ مسرحا صغيرا أضيق من طموحاته وآماله الكبار بكثير. ومع ذلك، وحبّا لهذا الحيّ وعشقا لمدينته سيظلّ وفيّا له ولأصحابه إلى آخر لحظة.
أمّا المحور الثّالث في نظرنا، فقد تعلّق بحياة الرّاوي الفكريّة والثقافية عامّة. ويمكن تحديدها بمستويين اثنين كذلك: أوّلهما مستوى العلاقات البشرية. وقد توسّع فيها بدءا من علاقته بأمين المكتبة العموميّة وهي فضاء شهد فيه صقل جانب كبير من ثقافته وتكوينه وقد ربطته به علاقة قرابة، مرورا بعد ذلك بعلاقته بعدد من زملائه في الدّراسة الثّانوية والجامعيّة وخاصّة من أطياف اليسار الماركسي، وهو الّذي حافظ على أدائه للصّلاة حتى سنته الجامعيّة الأولى. ثمّ علاقته بعدد من المثقّفين والكتاب داخل المدينة وخارجها، وصولا إلى علاقته بكتّاب كبار على مستوى الوطن العربيّ من أمثال حنّا مينة ونبيل سليمان وبثينة شعبان وجمال الغيطاني من الروائيين، وسميح القاسم وأدونيس من الشّعراء، الّذين يصرّح بأنّهم أعسر في التعامل من غيرهم من الكتاب والمثقّفين وخاصّة شاعرا مثل أدونيس الممتلئ بتمركز الذّات. حتى أنّ بعضهم كان ينظر إليه، عندما كانوا يتوافدون مدعويين إلى مهرجان قابس الدولي، على أنّه مجرّد موظّف في وزارة الثقافة، وهو بالتأكيد ما أزعج الرّاوي. وهؤلاء ممّن أتاح مهرجان قابس الشّهير سهولة التواصل معهم، باعتبار أنّ الرّاوي كان قد تربّع على رئاسته لسنوات عديدة. وهذا يحيلنا في الواقع إلى المستوى الثاني المتعلّق بالنشاط الفكري والأدبي. فقد انطلق الرّاوي فيما يذكره عن نفسه، من العمل النقابي الّذي كان يعتقد أنّه كفيل بأن ينتشل البلاد من الدّكتاتوريّة وغياب العدالة الاجتماعية. غير أن العمل النقابي سرعان ما أصابه بخيبة الأمل وذلك عندما وجد نفسه مباشرة أمام جبروت النّظام الّذي دفعه إلى التنازل بل وتغيير مسار حياته الأول، لتتضح معالم الطّريق الأخرى التي سيقطعها الباردي الإنسان. إذ قرّر أن يتحوّل إلى البحث الأكاديمي والكتابة الإبداعيّة بدلا من معاناة البوليس السّياسي ومضايقات النّظام المتجه قدما نحو مزيد من الظلم ومزيد من الدكتاتوريّة..
وفي الواقع، كانت هذه إطلالة سريعة منّا على سيرة الباردي الروائية في جزئها الثاني «تقرير إلى عزيز» إذ ما يزال الأثر بكرا. وهو يحتاج كغيره من السّير المخصبة إلى عدد لا بأس به من المقالات والدّراسات. وقد ضربنا صفحا عن عدد من مراكز الاهتمام الثانويّة ومجالات أخرى لعلّنا نعود إليها في مجال أرحب من هذا. ولكن لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ الكاتب، وربّما في غمرة حماسه لنشر هذا الجزء، قد غفل عن عدد من المزالق اللّغوية كنّا نتمنّى ألاّ تفوته وهي في حاجة إلى المراجعة الدّقيقة. وبالتأكيد، فإنّه، وفيما لو قُيّض له أن يجدّد الطبعة، لن يغفلها بما سيزيد من نجاح هذا العمل الإبداعي المتميّز، الّذي قد لا نجد من أمثاله الكثير في حياتنا الأدبيّة التونسيّة. أنتهى تقرير إلى عزيز، أو سيرة مدينة (سيرة ذاتية روائيّة) الكاتب محمّد الباردي. النّاشر: ضحى للنّشر والتوزيع 2012