لماذا مازلنا نتحدث عن لا استقلالية القضاء، ما الذي يشدّه الى الوراء؟ من يعطّل إصلاح المنظومة القضائية وما السبيل لاصلاحه؟ أسئلة حاولت «الشروق» الغوص في ثناياها بحثا عن سبل حلحلة هذه المسألة وبلورة سبيل سالكة للاصلاح. يعتبر اصلاح المنظومة القضائية من بين المطالب الجوهرية التي نادت بها ثورة 14 جانفي بعدما استخدم النظام السابق السلك القضائي كأداة لخدمة مصالحه وترهيب وتخويف الخصوم السياسيين والمعارضين له وعامة الشعب حتى أصبح بؤرة للفساد اذ حاد عن مساره من انصاف المظلوم الى آلية لقمعه واضطهاده باسم القانون. فمع اندلاع الثورة وتنفّس الصعداء حلُم المواطن بإعادة الاعتبار لكيانه ولحرمته ولأن «العدل أساس العمران» انتظر الجميع تغييرواقع القضاء وتخليصه من الأغلال التي كبّلته طوال عقود خلت.. ولكن هذه الانجازات لم ترَ النور بعد وبقيت مجرّد حبر على ورق ووعود واهية لم تُطبّق على أرض الواقع بعد أن ألقت بعض الأطراف بملف تطهير القضاء عرض الحائط. وهنا يُطرح السؤال عن الأسباب التي عطّلت الى حدّ الآن اصلاح القضاء بعد الثورة؟ ولمزيد تسليط الضوء على الموضوع اتصلنا بأهل الاختصاص قصد التعرف على خفايا هذه الأسباب ولطرح آليات وأساليب تحقيق استقلالية المنظومة القضائية، وماذا تنتظر وزارة العدل للبدء في عملية اصلاح القضاء؟ أكدت رئيسة نقابة القضاة روضة العبيدي أن الأسباب الرئيسية التي عطّلت اصلاح القضاء تمثلت في غياب الارادة السياسية في هذا الاتجاه رغم أهمية التطرّق الى الموضوع باعتباره من أهم وأوكد القضايا التي وجب النهوض بها واحداث نقلة نوعية فيها بعد الثورة. وبيّنت العبيدي أن التباطؤ والتراخي في احداث الهيئة الوقتية المستقلة للقضاء والتي ستحلّ محلّ المجلس الأعلى للقضاء من أبرز العراقيل التي عطّلت مشروع الاصلاح بالاضافة الي عدم فتح ملفات الفساد داخل المنظومة القضائية وابقاء المنظومة القديمة على حالها، الأمر الذي جعل العديد من المتقاضين لا يثقون في الأحكام التي رُصدت مؤخرا. كما أن التأخير في البتّ في عديد القضايا مردّه عدم اجراء اصلاحات جوهرية داخل المنظومة القضائية، ومن جانبه أرجع المحامي عبد الستار المسعودي الأسباب الي عدم استتباب الأمن وتعاقب الحكومات بعد الثورة التي وسمتها التجاذبات السياسية المختلفة. وهذه الحكومات لم تكن لها رؤية واضحة في خصوص المنهجية الواجب اتباعها لتحقيق الاصلاح الذي تصبو اليه جميع مكونات المجتمع المدني. وذهب المسعودي في تصوره الى الاستشهاد برأي الأزهر القروي الشابي وزير العدل في حكومة الباجي قائد السبسي الذي أكد أن الاصلاح يبدأ بادخال تعديلات جوهرية على القانون الأساسي للقضاء. وأبرز كذلك أنّ التصادم بين الوزارة في ثوب السلطة التفنيذية وجمعية القضاة ونقابة القضاة شكل عائقا في طريق تفعيل البرامج الاصلاحية. وقلّل عبد الستار المسعودي من أهمية الدور الذي لعبه المجلس التأسيسي في هذا الصدد وأوضح بأنه تكرم فقط بفصل «يتيم» وهو الفصل 22 من القانون التأسيسي عدد6 والمؤرخ في 16 ديسمبر 2011 والقاضي بممارسة السلطة القضائية صلاحياتها باستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية. تحميل المسؤولية للحكومة ومن جهته حمّل أحمد صواب رئيس اتحاد القضاة الاداريين مسؤولية تأخير اصلاح القضاء الى الحكومة الحالية بفرعيها التشريعي والتنفيذي لأنها أهملت الاهتمام بالموضوع ولم تضع استراتيجية واضحة وناجعة للمضيّ قُدما في مشروع الاصلاح. كما أن تشتّت القضاة وغياب الوحدة بينهم وتأثرهم بالتجاذبات السياسية من أبرز الأسباب اذ انقسموا الى أربعة هياكل وهي نقابة القضاة وجمعية القضاة واتحاد القضاة الاداريين والمستقلين، وهو ذات الأمر الذي دعمته كلثوم كنو وحملت المجلس الوطني التأسيسي مسؤولية تواصل تردي أوضاع المؤسسة القضائية وعدم التفاعل ايجابيا مع مطالب القضاة المشروعة والرامية لارساء سلطة قضائية مستقلة. تفقير... واعتداءات واعتبرت كنّو أن تردي ظروف العمل بالمحاكم ومحدودية امكانيات القضاء وتفقيره وتدني الظروف المادية والاجتماعية للقضاة لا يتناسب ووضع المنظومة كسلطة ويشكل عائقا جدّيا أمام أدائهم لمهامهم على أكمل وجه. وندّدت كلثوم كنّو بالاعتداءات المتكرّرة على المحامين والقضاة وآخرها تعرض قاضي تحقيق وكاتبه بمحكمة القصرين مؤخرا الى الاعتداء وكذلك بمدينة سليانة... وهذا ما يشد القضاء الى الوراء. آليات الاصلاح المقترحة لتحقيق نقلة جذرية في المنظومة القضائية اقترح المحامي عبد الستار المسعودي الاقتداء بالديمقراطيات العريقة التي كرّست استقلال القضاء على مرّ السنوات والعقود سواء في النظام «الأنڤلوسكسوني» أو المتبع في جلّ البلدان الأوروبية والآسياوية منها والتي جعلت من القاضي نبراسا يهتدى به وبوّأته مكانة أولى في المجتمع. أما روضة العبيدي فقد ركزت على ضرورة الاعتراف بالمجلس الأعلى للقضاء بكونه هيئة دستورية له الاستقلال المادي والمعنوي بالاضافة الى فصل النيابة العمومية عن نفوذ السلطة التنفيذية ودعت المسؤولين أصحاب مراكز القرار السياسي الى اعتبار مطلب اصلاح القضاء ذي أولوية مطلقة، فلا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي من غير قضاء مستقل، والاسراع في اصلاح القضاء يرتقي الى الاسراع في سن الدستور. كما نادت بتغيير القانون الأساسي للقضاء كليا وتدعيم استقلاليته كأساس للاصلاح. فتح ملفات الفساد ومن جانب آخر أشارت كلثوم كنو الى أنّ من أهم مفاتيح التغيير في المنظومة القضائية يبدأ من خلال فتح ملفات الفساد لمحاسبة كل المتورّطين داخل الهياكل القضائية بفرعيها المالي والاداري ومساءلة المساهمين في الانفلات القضائي وهذا يكون وفق تطبيق آليات عاجلة تتمثل في احداث هيئة وقتية مستقلة للقضاء ليست في تبعية للسلط الأخرى تنبني على معايير موضوعية وشفافة في اسناد الخطط الوظيفية وفي الترقية والنقلة وبذلك يتمّ استبعاد كل المتورطين في الفساد. في هذا الاطار نادى أحمد صواب بضرورة محاسبة القضاة الذين تفرّغوا لخدمة التجمّع المنحل والمساهمين في خرق واجب التحفظ والحياد. ونوّهت كلثوم كنّو بأهمية وضع قانون أساسي للقضاء يتضمن المعايير الدولية التي ترتكز على الاستقلالية والحيادية وانصاف المظلوم. المصالحة... وإعادة الاعتبار نادى عبد الستار المسعودي بمبدإ المصالحة بين المواطن والمرفق العدلي وذلك من شأنه أن يدعم اصلاح القضاء وتحقيقه نقلة جذرية مع حفظ كرامة ا لقضاة المادية والمعنوية، الأمر الذي من شأنه أن يعيد الاعتبار لحرمة القاضي. برج عاجي من جانبه اقترح أحمد صواب ضرورة خروج القاضي من برجه العاجي وانفتاحه على العموم وقربه من الشعب وفتح الباب أمام الساحة الاعلامية وهذا من شأنه أن يحقق استقلال القضاء واصلاحه بالصورة المثلى التي تصبو اليها المبادئ التغييرية. ماذا أضاف الوزير ؟! في اطار ملف اصلاح القضاء وآلياته وخلال الحديث عن وزير العدل نور الدين البحيري بين عبد الستار المسعودي أن الوزير المذكور محام ومتمرّس في المحاماة واهتم خاصة بقضايا الحريات وطالما نادى باستقلالية القضاء الذي اعتبره أساس مشروعه الاصلاحي في الحكومة الجديدة ولكن من السهل أن يناشد المرء مبدأ الاستقلالية وهو خارج السلطة ومن الصعب أن يتحقق ذلك وهو داخلها ويمارسها. وأكد المسعودي بأنه الى حد الآن لم يسجل أي تطور حتى أن الهيئة الوقتية المستقلة للقضاء بقيت مجرد وعود واهية الأمر الذي من شأنه أن يعمق الهوة بين القضاة والوزارة والحكومة ككل. أما أحمد صواب فقد اعتبر وزير العدل قد وقع في خطإ غياب المنهجية وروزنامة واضحة وطموحات تفوق الامكانيات اذ تراكمت الملفات التي تأثرت بالوضع الذي تعيشه البلاد من تجاذبات سياسية واعتصامات وفوضى وطلبات مشطة.. مما أدى الى الوقوع في سذاجة الاشراف دعمتها قوى الشد الى الوراء التي ترمي الى الوصول الى المناصب لا غير.. في نفس السياق اعتبرت روضة العبيدي أن مسؤولية اصلاح القضاء ليس محمولا على وزير العدل فقط بل على برنامج ومهمة الحكومة بأكملها . عودة الى الوراء استنكرت كلثوم كنو بتباطؤ وزارة العدل وتراخيها وصرحت بأنه رغم مضي أربعة أشهر ونور الدين البحيري على رأس الوزارة لكنه لم يف بوعوده المنتظرة وكل قراراته المتخذة تصب في نفس الطريقة التي كان الوزراء السابقون يتبعونها وذلك بعدم وضع معايير شفافة في ما يتعلق بتعيين بعض القضاة في مناصب مختلفة دون استشارة جمعية القضاة وهو ما يرفضه القضاة. كما سلطت كنّو الضوء على مآل وعود وزارة العدل بخصوص الهيئة الوقتية المستقلة للانتخابات. وفي نفس السياق اعتبرت أن ما صرح به وزير العدل مؤخرا بخصوص موضوع الهيئة الوقتية ودعوته للحوار قد جاء متأخرا وهو على خلفية اصدار المجلس الوطني لجمعية القضاة التونسيين بيانه المؤرخ في 14 أفريل 2012 والذي تقرر من خلاله وضع القضاة للشارة الحمراء مدة أسبوع وعقد ندوة صحفية بقصر العدالة يوم أمس 21 أفريل 2012 والقيام بوقفة احتجاجية داخل المجلس الوطني التأسيسي يوم 27 أفريل 2012 لانارة الرأي العام وكافة المجتمع المدني واحتجاجا على التأخير في فتح ملف الاصلاح القضائي واصدار الهيئة الوقتية المستقلة التي ستشرف على القضاء العدلي.