ماهو موقف الفنانين والمبدعين عموما من فكرة مشروع خوصصة الاعلام العمومي التي قدمها عدد من مسؤولي حزب حركة النهضة، وهل فكر أصحاب المشروع في وظيفة الاعلام العمومي وخصوصا فيما يتعلق بالابداع والثقافة الوطنيين، وماهو المغزى الحقيقي من هذا المشروع المفاجئ والغريب؟
أسئلة نطرحها في هذا الملف لما للثقافة الوطنية والابداع تحديدا من مكانة خاصة ومتميزة في مراسيم وعقود الأهداف لوسائل الاعلام العمومية في الدول الديمقراطية المتقدمة.
صراع ايديولوجي
اقتصر النقاش في المدة الاخيرة عقب اعلان حزب حركة النهضة عن فكرة مشروع خوصصة الاعلام العمومي، على الصراع الايديولوجي والصراع السياسي حيث وصف بعض مسؤولي حزب حركة النهضة والائتلاف الحاكم الاعلام العمومي وتحديدا التلفزة الوطنية بالانحياز لأطراف سياسية لا تمثل أغلبية الشعب وذلك من خلال البرامج الاخبارية والحوارية التي يقدمها صحفيو التلفزة. كما وصفوا إعلامها بالبنفسجي في إشارة إلى النظام السياسي السابق، في حين أن الاعلام العمومي والتلفزة الوطنية تحديدا لها وظائف وأهداف أخرى كبيرة غير نشر الاخبار ونقل المعلومات والتواصل السياسي.
ضمن أهداف الاعلام العمومي أيضا تنقيح التعليم والتعلم والتحفيز على الابداع والتميز ودعم مفهوم المواطنة والمجتمع المدني كما في المرسوم البريطاني الجاري به العمل في هيئة الاذاعة البريطانية (BBC). وينص المرسوم الفرنسي بدوره الى جانب الوظائف الأخرى المعروفة لوسائل الاعلام العمومية، على مساعدة الشباب على الاندماج في الثقافة الفرنسية للحدّ من تأثره بالثقافة الأمريكية، وذلك من خلال دعم أشكال الكتابة الدرامية للتلفزيون كما ينص على زيادة دعم الانتاج السينمائي الفرنسي. هل فكر حزب حركة النهضة صاحب فكرة مشروع خوصصة الاعلام العمومي والتلفزة الوطنية بشكل خاص في هذه المسائل؟
الثقافة والهوية
إن من مهام التلفزة الوطنية الى جانب الاخبار والتو اصل السياسي وكل الوظائف الأخرى المعروفة في مراسيم وعقود الاعلام العمومي في الدول المتقدمة، دعم الانتاج السينمائي والمسرحي والموسيقي كتخصيص منحة مالية لكل إنتاج سينمائي تونسي توافق على دعمه وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، مقابل الحصول على ترخيص بث الفيلم بعد عرضه في القاعات.
وفي دعم الانتاج المسرحي الوطني، تقتني التلفزة الوطنية دوريا عددا من المسرحيات تتولى تصويرها وبثها مقابل مبالغ مالية يقع الاتفاق حولها مع المنتجين كما تقتني التلفزة دوريا عددا من العروض الموسيقية والغنائية من المهرجانات والتظاهرات الوطنية مقابل الدعاية لها اضافة الى تنظيمها أو المساهمة في تنظيم بعض المهرجانات الموسيقية كمهرجان الأغنية وذلك في اطار دعم الأغنية التونسية.
وتقوم التلفزة الوطنية الى جانب كل هذه المهام والوظائف بدعم كل مجالات الابداع من أدب وفنون تشكيلية وغيرهما وذلك بتخصيص برامج ثقافية تعنى بهذه الفنون، اضافة الى الاهتمام بنقل التراث الثقافي عبر الأجيال المختلفة وهو من أهم وظائف الاعلام العمومي التي حددها «لابدول» لأن الاعلام الخاص والقنوات التلفزيونية الخاصة، تخضع غالبا الى منطق السوق أو المنطق التجاري، ولنا في تونس أمثلة كثيرة. فمتى اشترت القنوات الخاصة عملا سينمائيا أو مسرحيا تونسيا أو حتى ساهمت في إنتاجه؟ إذ لا تعنى هذه القنوات سوى بالانتاج الفني التجاري الذي يجلب لها مشاهدين. أما البرامج المخصّصة للابداع مثل الكتاب والفنون التشكيلية فهي تكاد تكون غائبة في هذه القنوات، لا لشيء سوى لكونها غير شعبية ولا تحقق نسب مشاهدة عالية. من سيعنى بهذه المجالات إذا ما تمت خوصصة الاعلام العمومي ومن سيحمي المشاهد وخصوصا الشباب منه من تأثير الثقافات الأخرى الأجنبية التي تقدمها عشرات القنوات؟
خفايا المشروع
إن المغزى الحقيقي من فكرة مشروع خوصصة الاعلام كما يبدو وخصوصا التلفزة الوطنية على الأقل حسب أقوال السيد عامر العريضي المفيدة بأن عددا لا بأس به من الشعب غير راض على آداء التلفزة، ليس إرضاء لهذا العدد من الشعب وإنما هو إرباك الصحفيين العاملين بالتلفزة وارهابهم لخدمة الحكومة والحزب الحاكم بدرجة أولى.
وفي إرباك صحفيي الاعلام العمومي تأثير على الاعلام بشكل عام وتحديدا الاعلام الخاص أو المستقل الذي قد يفقد حريته واستقلاليته في حالة السيطرة على الاعلام العمومي علما وأن النظام السابق وحتى الذي سبقه حين أخضع الاعلام وحوّله الى منبر يحشد من خلاله الأنصار، بدأ بالاعلام العمومي والتلفزة تحديدا ثم انخرطت بقية وسائل الاعلام الأخرى الخاصة في المشروع خوفا من العقاب. أما من خرجوا عن الصف، فكان مآلهم إمّا الغلق أو الحرمان من امتيازات الدولة وفي مقدمتها الاشهار العمومي.
ولأنه من غير الممكن خوصصة الاعلام العمومي على الأقل بالنسبة لمؤسستي الاذاعة والتلفزة الوطنيتين لعدم واقعية الفكرة أو المشروع، فإن المغزى الخفي الذي يصبو إليه أصحاب هذا المشروع وحزب حركة النهضة بدرجة أولى، كما يبدو هو تعبيد الطريق لتنفيذ مشاريع أخرى منها التفويت في المؤسسات الاعلامية التي وقع تأميمها عقب سقوط النظام السابق مثل «دار الصباح» وإذاعة «شمس. آف.آم» وإذاعة «الزيتونة» وربما كذلك «لابراس» بصحيفتيها «لابراس» و«الصحافة» بقي السؤال في مدى صلوحية الحكومة الحالية بوصفها مؤقتة والمجلس الوطني التأسيسي، في التصرف في هذه المؤسسات الاعلامية، ولمن سيقع التفويت فيها؟