تمسح المناطق السقوية العمومية في ولاية باجة 26 ألف هكتار موزعة على مجاز البابوتستوروباجة الجنوبية وقبلاط ومناطق أخرى وتحتل هذه المناطق السقوية أراض زراعية خصبة غير أن استغلالها الأمثل يبقى محل جدل بين العديد من الأطراف المعنية. هذه المساحات استوجبت من خزينة الدولة استثمارات تحوم حول 270 مليون دينار لتهيئتها وتجهيزها وقد ساهمت هذه الاستثمارات في الترفيع من قيمة الأرض حوالي عشر مرات من حيث الثمن معنى ذلك أن إحياءها كان من المفروض أن يرفع من مردوديتها إنتاجا وإنتاجية عشر مرات أيضا إن لم يكن أكثر علما وأن معظم هذه المناطق تمّ بعثها في سهول مجردة الوسطى أي في المناطق الأكثر عطاء وثراء وخصوبة في الجهة عامة.
وكان بعث هذه المناطق السقوية العمومية مبنيا على أساس تنويع الانتاج وتكثيفه من حيث المزروعات خضرا وحبوبا وبقولا وأعلافا ومن حيث الغراسات بجل أنوعها وغلالها. ومن حيث تربية الماشية وخاصة منها البقر الحلوب كعنصر اندماجي أساسي في المنظومة الانتاجية المتكاملة لما يلعبه هذا القطاع في تثمين مردودية الأرض بما يوفره من سماد لها ويساهم في تعدد مصادر الكسب للفلاح. وكان من المفروض أن توفر هذه المناطق السقوية العمومية ما لا يقل عن خمسين ألف موطن شغل في أدنى الحالات.
تلك هي اليافطة المنطقية التي كانت مرسومة في العقول ولكن الواقع يعكس هذه الحقيقة البديهية تماما. فالمتجول في هذه المناطق السقوية الشاسعة قد لا يتفطن الى أنها مناطق سقوية وأنها لا تختلف كثيرا عن المناطق البعلية ويعود ذلك الى ضعف نسبة استغلالها التي تصل الى 29 في المائة معني ذلك أن «البعلي» الارادي يحتل 71 في المائة من هذه الأراضي موسميا على الأقل أما الغراسات فهي حاضرة في المنطقة السقوية بتستور لارتباط أهلها تستور بموروثهم الزراعي الأندلسي منذ قدومهم من الأندلس وشبه حاضرة في قبلاط لوجود شركات أحياء وتنمية ومنعدمة في ما عدا هذين المنطقتين. وتبقى هذه المناطق السقوية العمومية تفتقر الى واحدة من أهم ركائزها وهي تربية الماشية إذ أن عدد الرؤوس فيها بالمقارنة مع المعدل الذي كان المفروض أن يكون فإنه لا يتعدّى معدلات المناطق البعلية.
ومن المظاهر السلبية في المناطق السقوية هو نفور بعض مالكيها من الري ممّا اضطرّهم الى كرائها لأناس معظمهم ليسوا من الجهة وإما من جهات أخرى والغريب أن من بين من اكتروا أراضيهم من يعمل كعامل فلاحي عند الكاري على أرضه ومن نتائج كراء الأرض للغير في هذه المناطق أنها أصبحت مهدّدة بالعقم لكثرة استنزافها من جراء الإفراط في استغلالها بما يعرف بالري «الخمري» من طرف الكاري الذي لا همّ له سوى الربح الكثير في الوقت القصير وهذا الإفراط المعالى فيه يسرع بعقم أديم الأرض على اعتبار أن نسبة الملوحة في مياه مجردة مرتفعة وهو ما بات يهدد المنطقة السقوية بمجاز الباب برمتها حتى أن بعض الأراضي فيها باتت في أشدّ الحاجة الى استصلاحها من الملوحة المرتفعة.
ذلك هو جانب لوجه من وجوه المناطق السقوية في ولاية باجة وربما ما خفي منها كان أعظم من حيث غياب الإحاطة والتوجيه والارشاد والتمويل الذي قد يكون هو فيروس كل العلل في هذه الربوع السقوية باعتباره عادة ما يكون بالتقطير على غرار الري قطرة قطرة ولكن هل تنفع سياسة تقطير التمويل في جهة تفيض ثراء وخصوبة.. سؤال يبقى في حاجة الى التحليل والتشخيص والتشريح لتحديد العلّة وتشخيص الدواء وتوفيره.