فرّطت الدولة في الجزء الأكبر من الأراضي للخواص، وأعطت افضل الضيعات وأخصبها حسب القرب من النظام والولاء له ودخلت الفلاحة في تونس في أزمة هيكلية وجدت جذورها في طبيعة النظام السياسي، فهل أحدثت الثورة قطيعة مع النظام البائد في المجال الفلاحي أم حافظت على نفس أساليب الانتاج؟ بدأت وزارة الفلاحة، بعد الثورة العمل على استرجاع الاراضي التي تحصّل عليها أفراد من الطرابلسية والمقرّبين منهم وتمت مصادرة 24 شركة، مع الاشارة الى أن اكثر من 52 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية الافضل والأخصب في البلاد لم تتمكّن الدولة من استرجاعها لوجود تعقيدات قانونية كبيرة، كما لا يزال عدد من الذين حصلوا على ضيعات عبر الولاء للنظام السابق، دون تتبع.
وقد سعت وزارة الفلاحة والدولة عموما، بعد الثورة الى استرجاع ما تم نهبه، وتمت إحالة العديد من الملفات على القضاء، لوجود عمليات فساد. لكن هل تكفي النوايا الطيبة لحل أزمة الفلاحة، وما العمل؟
الانتاج الاستراتيجي
يعتبر اخصائيو الفلاحة في تونس، بأن الزراعات الكبرى مثل الحبوب تعتبر من الزراعات الاستراتيجية بحكم طبيعة الغذاء للتونسي، الذي يعتمد اساسا على الحبوب. اذ نجد في البلاد التونسية مليون و500 ألف هكتار مخصّصة للحبوب.
ثلث هذه المساحة يتم استغلالها بطرق مختلفة منها ما هو تحت تصرّف الدولة ومنها ما هو في شكل تعاضديات، وفي شكل مقاسم فنية يتصرّف فيها فنيون على وجه الكراء اضافة الى شركات احياء.
وقد استرجعت الدولة مؤخرا 20 ألف هكتار من الأراضي المخصّصة للحبوب هي الآن تحت تصرّف ديوان الاراضي الدولية (OTD) فيما يتم استغلال 80 ألف هكتار للزراعات الكبرى من حبوب وأعلاف وبقوليات.
السيطرة على الانتاج
لكن ما دامت الدولة، لا تسيطر الا على ما تملكه، وهي لا تملك اكثر من 9 بالمائة من الأراضي الفلاحية، فإنه من العسير ان تسيطر على الانتاج حتى وإن بدا بأن بلادنا حققت الاكتفاء الذاتي في بعض المواد، لكن دون أن يعني ذلك بأننا حققنا أمننا الغذائي، غير أن أخطر ما في الأمر بالنسبة الى أهل الاختصاص هو ارتهان الجزء الاكبر من غذائنا الاساسي، وهو الخبز الى الخارج، كيف ذلك؟
80٪ من خبزنا من وراء البحر!!
حسب الاحصائيات الرسمية فإننا لا ننتج الا 20 بالمائة من خبزنا اليومي في تونس، في حين يتم توريد 80 بالمائة من الخارج، فتونس لا تنتج الا 20 بالمائة من القمح اللين الذي يستعمل للخبز أما 80 بالمائة قيمة استيرادها من الخارج.
أما بالنسبة الى القمح الصلب، والذي يستعمل لصناعة السميد والكسكسي والمقرونة... فإن الانتاج الوطني يتراوح بين 60 و70 بالمائة ويتم توريد ما بين 30 و40 بالمائة من الخارج.
حسب السيد أسامة الخريجي كاهية مدير الحبوب بوزارة الفلاحة، فإن مردّ ذلك، هو الاختيار الاستراتيجي، الذي قال ان بلادنا لم تكن تنتج القمح الليّن، وأن الاستعمار هو الذي أدخل زراعة هذا القمح، الا أن زراعته بقيت منحصرة في مناطق بعينها مثل زغوان وسليانة وباجة وبنزرت.
وقال إن توجّه الدولة اليوم هو التشجيع على انتاج القمح الصلب، لأن أسعاره عالميا مرتفعة، وغير متوفّر بالكميات الكافية في الأسواق العالمية ويمكن أن يفقد في هذه الاسواق بمجرّد مثلا نشوب حريق في أوكرانيا أو وجود أزمة في الولاياتالمتحدةالامريكية، أما بالنسبة الى القمح اللين فهو متوفّر عالميا بكميات كافية، ويخضع للأزمات اضافة الى أنه أقلّ ثمنا من القمح الصلب.
بالنسبة الى القمح، فإن الدولة اختارت التركيز على الصلب منه وليس على اللين ارتباطا بالاسواق العالمية، الخاضعة لمنطق العرض والطلب ولسيطرة الشركات المتعدّدة الجنسيات والكبرى.
ومع ذلك فإن الانتاج في تونس مازال متذبذبا من سنة الى اخرى، ويعتبر معدّل الانتاج في تونس دون المعدل العالمي. فالمعدّل العالمي لانتاج الحبوب هو 30 قنطارا في اهكتار الواحد. وتنتج اوروبا 60 قنطارا في الهكتار الواحد. فيما لا تنتج تونس الا 13 قنطارا في الهكتار الواحد، رغم الاختلاف من جهة الى أخرى.
ويرى الخبراء انه يمكننا أفضل إذ من أبرز أسباب ضعف الانتاج، يردّها المختصّون الى تشتت الملكية، وهي المعضلة الاساسية في الفلاحة التونسية، إذ أن 80 بالمائة من قطع الأراضي التي يتم استغلالها للحبوب أقل من 20 هكتارا.
ويلاحظ الخبراء اليوم أنه يجري راهنا في تونس تقليص الاراضي المخصصة للزراعات الكبرى لفائدة زراعات وغراسات أخرى مثل الزيتون.
تهرب جبائي
وتفيد الأرقام بأن 90 بالمائة من الانتاج الفلاحي في تونس ينتجه الخواص، وجزء من هؤلاء المستثمرين في القطاع الفلاحي ليست لهم صلة بالفلاحة، إذ أن عددا من المستثمرين مثلا في السياحة يبعثون استثمارات فلاحية، ليس لدعم الامن الغذائي الوطني، بل ليكون معفيا من دفع الجباية، فهو نوع من الاحتيال الجبائي، بالاضافة الى ذلك، فإن المستثمرين الخواص الذين يسيطرون على 90 بالمائة من الانتاج الفلاحي في تونس وبالتالي 90 بالمائة من غذائنا، لا همّ لهم غير تحقيق الأرباح، وأمام عدم وجود ما يقيّدهم في طبيعة ونوعية الاتاج خاصة أمام عدم وجود قانون يفرض على الفلاح نوعية انتاج معين، وهو ما يجعل المستثمر ينتج ما يراه مربحا وليس ما يحقق الأمن الفلاحي، فيما تظل الأراضي المهمّشة لصغار الفلاحين وبعض المزارعين والفلاحين الفقراء، لذلك حاولت الدولة من أجل توجيه الانتاج دعم وتشجيع زراعة القمح الذي مازال توزيعه حكرا على الدولة.
لا استفادة من الانتاج
وأمام هذه الصورة لتوزيع الانتاج وملكية الأرض، فإنه رغم وجود منتوج يتجاوز أحيانا الحاجة ويحقق الفائض الا أن ذلك لا يستفيد منه المواطن فأين المشكل بالضبط؟ تنتج تونس 3 ملايين طن سنويا من الخضروات و1.2 مليون طن من الغلال وتنتج 200 مليون بيضة سنويا و1350 مليون لتر من الحليب.
وقد خزّنت الدولة الى حد الآن استعدادا لشهر رمضان 40 ألف طن من البطاطا، منها 10 آلاف تم شراؤها و30 ألف تم تكليف الخواص بتخزينها، وهذه العملية صرفت عليها الدولة مبلغ 40 مليارا، وهنا كانت الخسارة بادية.
أزمة البيض
من المشاكل التي انتجتها الأزمة الهيكلية للفلاحة التونسية مشكل البيض، إذ تحتاج السوق في تونس بالنسبة الى شهر رمضان الذي سيكون هذه السنة في شهر جويلية الى 55 مليون بيضة.
وتونس تنتج سنويا 200 مليون بيضة، وهذا الانتاج كاف ويحقق فائضا، ومع ذلك فلقد بدأت الدولة في تخزين البيض، وعلى مدى أكثر من شهرين لم تتمكن من تجاوز 5 ملايين بيضة مما يعني حسابيا أننا سنواجه شهر رمضان ب 15 مليون بيضة في حين الاستهلاك يقتضي 55 مليون بيضة، فأين إذن بقية الانتاج.
حسب المعطيات فإن المستثمر عوض أن يبيع الاربع بيضات بأقل من 600 مليم، فإنه يقوم ببيعها في ليبيا بمبلغ دينار للاربع بيضات لذلك تم تهريب كميات هامة من البيض الى ليبيا.
وعوض أن تتولّى وزارة الفلاحة ايجاد حلول جذرية للموضوع، فإنها لجأت للحلول الأسهل وهي الاستيراد، إذ استوردت الدولة أكثر من 20 مليون بيضة من الهند، وما يعني ذلك من ضياع للعملة الصعبة.
وتم الاستيراد بتكلفة 120 مليما للبيضة الواحدة في حين كلفتها في الانتاج التونسي 111 مليما. ورغم أن الانتاج المحلي يفوق الحاجة الا أننا لم نحقق الاكتفاء الذاتي، لأن المنتج والمستثمر ببحث عن الربح، فلا يفكّر في غذاء الشعب التونسي، لذلك يقوم بتصدير المواد الغذائية بشكل قانوني أو عبر التهريب لتحقيق أرباح أكبر.