تواردت نصوص القرآن والسنة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن في ذلك تارة بالتعجب في قوله تعالى {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} وتارة بذمّ ساقطي الهمّة. هؤلاء يصوّرهم في أبشع صورة بقوله {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} (الأعراف 175و 176).وقال في ذمّ المنافقين {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف}ِ (التوبة 87) وشنّع الله على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همّهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة 38. لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌويثني سبحانه على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرّسل وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم..وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله، قال تعالى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف 35).كما عبّر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرّجال في مواطن البأس والعزيمة والثبات على الطاعة والقوة في دين الله قال تعالى فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (التوبة 108).وقال {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور 37) وقال تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}. (الأحزاب 23) فاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِوقد أمر الله بالتنافس في الخيرات فقال {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} (الحديد 21) وقال {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} (الصافات 61) وقال وَفِي ذَلِكَ {فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين 26) وقال تعالى {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (البقرة 148) أمّا السنة الشريفة فمليئة بالكثير من الصور.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل».وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يحبّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها». (رَواهُ الطبراني) وقد فقه سلفنا الصالح عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرها، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، فلا تراهم إلا صوامين قوّامين، باكين والِهِين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشهد بعلو همّتهم. يصعد بالهمّةمن أسباب علوّ الهمّة العلم والبصيرة: العلم يصعد بالهمّة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويُصفِّي النية، كما أنّه يرفع صاحبه عن الدنايا ويلزمه معالي الأمور، ويتقي فضول المباحات. قال تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات}ٍ (المجادلة 11) ولا ينال العلم براحة الجسد. كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث. ويقول: من المحبرة إلى المقبرة. إرادة الآخرة: قال تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (الإسراء 19) قال الحسن البصري رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره. كثرة ذكر الموت يدفع إلى العمل للآخرة والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة. كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون. صحبة أولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ من النّاس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإنّ من النّاس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه. المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف: قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }(العنكبوت 69). الدعاء: يعلمنا صلى الله عليه وسلّم علو الهمة حتى في الدعاء. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنّه أوسط الجنّة، وأعلى الجنّة، وفوقه عرش الرحمان، ومنه تفجر أنهار الجنّة».
وإنّ همَّة المؤمن أبلغ من عمله. قال صلى الله عليه وسلم: من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وقال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه». وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلاّ كُتب له أجر صلاته وكان نومه صدقةً عليه».