قال صاحبي: اتفقنا في خاتمة حوارنا الأسبوع الماضي أن نعود إلى مفهوم «الدولة المدنية»، وإلى أي مدى انتبه إليه رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر، وبخاصة أولئك الذين وصفوا في رحلاتهم إلى أوروبا الحياة السياسية هناك، لكن اسمح لي أن أعود إلى مسألة جوهرية لمحنا إليها تلميحا، وسئلت عنها دون أن أجد لها جوابا مقنعا، وأعني كيف نجد تفسيرا لموقف بعض قادة الفكر السياسي الإسلامي الذين يقفزون على التاريخ قرونا طويلة فعوض الإفادة من الآراء الاجتهادية التي أبداها مفكرون معاصرون حول قضايا الدين والدولة، وحول طرق إنقاذ العالم الإسلامي من الحكم المطلق كي يتحرر، ويشق طريقه نحوالمناعة والتقدم فإننا نجدهم يسعون إلى إحياء تراث فكر ديني سياسي تفصلنا عنه قرون طويلة مثل «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية، و«الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» لمريده ابن قيم الجوزية؟ قلت: أحاول الإجابة عن هذا التساؤل، مبديا بإيجاز الملاحظتين التاليتين: أ هذا القفز على الزمن لا يعترف بالسياق التاريخي لتطور المجتمعات، وتسيطر عليه الإيديولوجية، فأنصاره يعتبرون أنفسهم أحفادا لأجداد رحلوا قبل قرون طويلة، ولا يعرفون عنهم شيئا كثيرا، فهي نظرة غير تاريخية، وعندما وصلوا إلى السلطة في بعض الحالات وجدوا أنفسهم خارج الزمن، ومآل كل سلطة تجد نفسها خارج السياق التاريخي السقوط طال الزمن أوقصر، ولكن المشكلة أنها قبل أن تتهاوى تقذف بالدولة في هوة التفكك، وبالمجتمع في محنة التصدع، كما تبرهن على ذلك أمثلة كثيرة في التاريخ المعاصر. ب إن النصوص التي عالجت قضايا السياسة والسلطة في التاريخ الإسلامي، أوفي التاريخ الإنساني بصفة عامة كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالظرفية التاريخية التي كتبت فيها ابتداء من كتاب السياسة لأرسطو إلى اليوم مرورا بنهج البلاغة، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، ورسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان، والأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة الشرعية لابن تيمية، والمقدمة لابن خلدون، و«تخليص الإبريز في تلخيص باريز» للطهطاوي، ومقدمة أقوم المسالك لخير الدين، وطبائع الاستبداد للكواكبي، والخلافة لعلي عبد الرازق، ومعالم الطريق للسيد قطب، ومرورا كذلك بنصوص الفكر السياسي العالمي مثل «الأمير» لمكيافيلي، و«روح الشرائع» لمونتسكيو، و«العقد الاجتماعي» لروسو، و«البيان الشيوعي» لماركس وانجلز، و«ما العمل» ل«لينين»، وغيرها من نصوص الفكر السياسي الإسلامي، أو العالمي التي لا يمكن أن تفهم إلا إذا نزلت في زمانها. لا ضير أن يستشهد بها في مجال المقارنة بين مسارات هذا المجتمع أوذلك، أما اعتبارها مرجعا لمعالجة القضايا المعاصرة فإنه أمر لا يستقيم لا معرفيا، ولا سياسيا، ومن هنا استغرب الناس، لما سمعوا من يسعى لتجديد «الفقه السياسي»، وتساءلوا: هل سنبني بعد سقوط النظم الاستبدادية الدولة المدنية الديمقراطية بالعودة إلى كتاب «السياسة الشرعية ...» لابن تيمية، أوإلى رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب !! تصور لوأحد زعماء أحزاب اليسار الفرنسي استنجد في الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة بمقولات «البيان الشيوعي»، أوبأطروحات لينين في كتابه «ما العمل ؟» ماذا ستكون ردود فعل الرأي العام الفرنسي ؟ قال صاحبي: طبعا سيضحكون منه، ويسخرون من بلاهته، وهنا أتساءل: ماذا سيقول شباب الثورات العربية لوجاء من يقول اليوم: إنني سأشيد حلمكم في بناء الدولة المدنية الديمقراطية انطلاقا من كتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية»، أو من مقدمة ابن خلدون، أو حتى من مقدمة أقوم المسالك؟ قلت: ربما يقولون مقهقهين : هذه عبقرية سياسية لم يجد الزمان بمثلها، وسيتحسرون كيف لم تتفطن النظريات السياسية الحديثة إليها ! قال صاحبي: لقد ذهب بنا الاستطراد بعيدا، وقد يقول القارئ الكريم أنك سهوت عن السؤال الذي توجهت به إليك: هل تفطن رواد الحركات الإصلاحية إلى مفهوم الدولة المدنية، وإلى مميزاتها ؟ قلت: الاستطراد في البحث العلمي، وفي الخطاب السياسي الشفاهي مذموم، ولكنه مفيد في النصوص الحوارية والسردية، فكم أماط الاستطراد اللثام عن قضايا خطيرة لم تكشف عنها النصوص الجدية. إن سؤالك دقيق يطرح إشكالية حرية بالبحث في نصوص الفكر الإصلاحي الحديث.