وتتوالى إطلالات هذه الأنا متراوحة بين الطّول والقصر. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الحضور كان يتعاظم بتقدّم الخطّ السّردي. فبعد أن كان خافتا في الفصول الأولى فإنّه قد أصبح بارزا بروزا حقيقيّا في الفصول التالية حتى أنّ الفصل الأخير الّذي لا يتجاوز ثلاث صفحات يمكن اعتباره من قبيل خطاب الأنا السّافرة بعد أن حاول فيه السّارد ربط الماضي بالحاضر ولو بطريقة خاطفة بقوله: «لم يبق من الحوش القديم إلاّ حائط جبسيّ وشبّاك انزوى هرما خجولا منسيّا. رحلتْ للّتي فاطنة بنت عمر منذ سنوات كما رحل عمر الذّيب ورحل سي الهادي بن عامر.. كان الكيلاني الفنك أطولهم عمرا. لم يرحل إلاّ بعد أن تجاوز التسعين من العمر... غمر الحيطانَ لون الإسمنت الرّصاصي ولون الياجور العاري. نتأت عيدان الحديد كالخوازيق... جلستُ في ظلّ منكسر قدّام باب الحوش على كرسيّ من البلاستيك الأبيض لأنّني لم أعد أقوى على الجلوس على الأرض..» (انكسار الظل. ص220) وكان الفصل قد افتُتح بالجملة التالية: «بلغتُ الخمسين من عمري ذات صيف قائظ مغمور بظلال اليأس والهزائم المتتالية». (انكسار الظلّ. ص219). والملاحظ أنّ حضور السّارد قد ظهر بمظهرين اثنين: أوّلهما وهو الأضعف إلى حدّ الضّمور، ويتمثّل في الدّور الوظيفي الّذي يمكن أن تلعبه شخصيّة السّارد نفسه فضلا عن دور الحكي. بمعنى أن تكون شخصيّة فاعلة في الأحداث وبسببها قد يتغيّر مسار بعض الوقائع أو يتأثّر مصير بعض الشّخصيّات.
فقليلا ما نجد أفعالا من قبيل «هتفتُ بصدق الطّفولة وشفافيّتها وأنا أرى بطنها المنتفخ يهتزّ..» (انكسار الظلّ. ص106) أو»مرقتُ في الأزقّة الرّملية مع جمال شعبان والحبيب بن مرزوق قاصدين حوش المنصف بن عامر.» (انكسار الظلّ. ص191) أو»أطلّ سي بوراوي الملوّح، مدير المعهد من شرفة مكتبه في الطّابق الثّاني.. أتأمّله بحبّ وإجلال ورهبة. أتأمّل وجهه الصّخريّ ونظّاراته السّوداء وبدلته الأنيقة وصمته القاسي.» (انكسار الظلّ. ص167) لأنّ هذه الأفعال من قبيل «هتفتُ ومرقتُ وأتأمّل» وإن كانت تدلّ على حركة محسوسة قد تُرى وقد تسمع، فإنّها لا تخرج عن إطار مواكبة بعض الوقائع والأحداث القصصيّة كدليل ربّما على أهمّيتها. إذ يبدو أنّ استراتيجيّة السّارد العامّة تكمن في عدم التدخّل في خطّ السّرد إلاّ متى اضطرّ إلى ذلك اضطرارا. وهذه مفارقة من مفارقات السّيرة الذّاتية، إذ كيف يمكن أن نعتبر هذا النصّ سيرة ذاتية في الوقت الّذي يترك فيه السّارد العنان لبقيّة الشّخصيّات عداه تسرح وتمرح وتعبّر عن نفسها كما يشاء لها منطق القصّ، وينعزل هو بعيدا انعزالا إراديا؟ وهذا يجرّنا إلى المظهر الثّاني من الحضور السّردي المتمثّل في التأمّلات.
فالسّارد يعبّر عن حضوره القويّ من خلال أفعال الباطن لا أفعال الظّاهر. ولذلك سنجد جملا متناثرة عبر الفصول تعبّر في المقام الأوّل عن تأمّلات خارجيّة في موضوع منفصل تماما عن الذّات، كما في تعليقه مثلا على شخصيّة عمر الذّيب، بقوله: «نسجنا عنه ونحن فتية حكايات وُلدت ونمت في خيالنا اليافع بحثا عن بطل يقول ويفعل ما لا يجرؤ النّاس على قوله أو فعله جهارا.» (انكسار الظلّ. ص99) أو في تعليقه على الكيلاني الفنك وهو يقول الشّعر مع القائلين. «تتشتّت الحروف ثمّ تتداخل في حلقه وأنفه ولسانه وفمه المفتوح دائما فلا يبقى من الغناء إلاّ اللّحن والنّشوة. بدا لي في تلك الأيّام أن لا شيء يقتل المسرّة وأنّ الحياة جديرة بالتقديس وأنّ ابن آدم كائن مدهش وإن ارتدّ إلى أرذل المراتب.» (انكسار الظلّ. ص88) أو كما في تعليقه على التحوّلات الطّارئة على قريته الصّحراوية وأحيائها التّالدة: «دفن الزّمن أحياش العبادلة القديمة.
كانت تبدو لي في أيّام صباي الأوّل عالية، شاهقة، خالدة لا يقدر على طمس معالمها شيء.» (انكسار الظلّ. ص83). بل حتى عندما يعلّق ما هو غير محسوس ومادّي كالأشخاص أو الأمكنة كما في تعليقه على غناء «الشّهيدي» في نوع من التداعي عقب مشهد للتي فاطنة التي غنّت في بعض اللّيالي مع بناتها، وبصوت مرتفع وهنّ جائعات ليدرك السّامع أنّهنّ شَبِعات، إذ ترد الجملة التالية على سبيل الاستنتاج: «فكان (الشهيدي) مستودعا لأسرار المرأة تدفن فيه لهفتها وشوقها وحرمانها دون أن يدرك السّامع ما تعني إلاّ من خبر اللّحن وفكّ رموزه.» (انكسار الظلّ. ص27)
وتعبّر هذه الجمل في المقام الثّاني عن تأمّل باطنيّ مقترن بالانهمام بموضوع مّا كفّ عن أن يكون مجرّد موضوع خارجيّ، ليتحوّل إلى عنصر من عناصر الإحساس بالوجود المشكّل لصورته ومفهومه في نظر السّارد البطل. وذلك كما في الحديث عن العامّية التي يقول فيها: «أسّست هذه اللّغة ثقافة شفويّة تبدو في كثير من الأحيان أوسع أفقا من الثّقافة المكتوبة. إنّ العامّية أبعد من أن تكون المولود المعوّق للفصحى» (انكسار الظلّ. ص28)