اذ نلاحظ أنّ هذا القول تضمّن أكثر من تعليق على ظاهرة ليتجاوز ذلك الى موقف صريح في مسألة ثقافية شائكة وخلافيّة مثل مسألة اللّغة. وقد يرتقي الموقف الى تأمّل فلسفي فردي يعكس عمق النظرة لدى القائل، أو بالتالي لدى السّارد وهو يقطع طريقه في رحلة الحياة: «هالتني، بين الغيبوبة والصّحو، نتيجة المعادلة الحسابيّة ذات المجهول الواحد: لقد كشفت الحرّية المطلقة عن أفسد ما في الانسان: الاثم والطّغيان. لا بدّ للحرّية من عدل/ جوهر باسط رافع مانع مهيمن حتى يمارس هذا الكون الموبوء بالانسان دورته. أفقتُ من غفوتي وجمال شعبان يمارس ثورته..» (انكسار الظل. ص137).
وهكذا تصل التأمّلات حدّا يحوّلها الى ضرب من فلسفة الوجود الثّابتة التي استُخلِصت من مسيرة حياة طويلة خصيبة بالتجارب المختلفة. هكذا يهمس البطل الى نفسه: «لم يستطع العمر ولا المعرفة ولا المنطق العلمي محو هذا الارتباط. ليت الادراك ينير المعاني والدّلالات. هل تستمرّ حياة الشّعوب دون طقوس ودعائم تشدّ قبّة الكون؟ ما أوتي الانسان من العلم الاّ قليلا.» (انكسار الظلّ. ص68)
لقد بدت لنا رواية «انكسار الظلّ» مع ما في اشكالية التجنيس من تعقيد، أقرب الى رواية الحنين الى المواطن الأولى. فالسّارد في الواقع قد ضمّخن نصّه بطاقة عالية من الايحاء والرومنسيّة والخيال المحلّق الّذي لا يكتفي بتناول الأشياء والوقائع والظّواهر تناولا جافّا أو سطحيّا. بل ينغمس في تحليلها وتقليبها وهو يسترجعها بتفاصيلها الدّقيقة الدّالّة.
عضد ذلك لغةٌ أثيلة تشبّع فيها صاحبها من بلاغة القرآن الكريم فاستنفذها بالاقتباس تارة وبالتضمين تارة أخرى وبالاستلهام طورا. كما عزّزها بصنوف مختلفة من الشّعر، بدءا بالشعر العامّي عيون الشّعر العامّي الّذي ذهب مذهب الأمثال السّائرة بين المرازيق وفي ربوع الجنوب التونسي حتى ليبيا والجزائر مرورا بالتراث الصّوفي الّذي يعكس ثقافة المؤلّف المنغرسة في عمق تراثنا الأصيل، وصولا الى شعر أمل دنقل الّذي يرد غالبا في مواضع الشعور بالانزعاج والألم وحتى التشاؤم لمصير الأمّة. اذ لا تخفى نبرة الحزن والانشغال على الأمّة التي ينتمي اليها الرّاوي، والّذي توازى خطّ حياته مع خط أزماتها ومحنها وتقاطع معها في أكثر من مرّة، كما في حرب 1967 ذات الطّعم المرّ والوقع الكارثي خصوصا على من آمن بزعيمها عبد النّاصر وآمن بريادة مصر العربيّة، أو كما في حربي الخليج الأولى والثّانية واللتين كانتا بمثابة الاجهاز على مستقبل الأمّة، لنصل أخيرا الى مشارف ثورة الرّبيع العربي التي تزامنت مع نهايات الكتاب..