ما الذي يغذّي الإشاعات في تونس؟ وما هي دواعي انتشار الإشاعات في هذه المرحلة؟ من المستفيد من إطلاق الإشاعات وما هي تداعيات هذه الظاهرة على الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني؟ إشاعات كثيرة تمّ تداولها في المدّة الأخيرة وأخبار يتبيّن بعد ساعات أو أيام أنها زائفة وإن أخذت الحماسة البعض لتصديقها وإعادة ترويجها بل البناء عليها لمبادرات سياسيّة، مثل استقالة الوزير المكلف بالإصلاح الإداري محمّد عبو وإقالة محافظ البنك المركزي وحصول حزب التحرير على تأشيرة العمل القانوني والتحذيرات بعدم زيارة تونس، وبعض الاعتداءات المنسوبة إلى التيار السلفي وغير ذلك من الأخبار التي تمّ تداولها بقوة ولكن يتبيّن في وقت لاحق بطلانها ويتم نفيها بصفة رسمية أو بإثبات عكسها تماما. تبدو الصورة وكأنّها ملحمة بطوليّة عنوانها الأبرز بثّ البلبلة وإحداث التوتّر وربّما ما هو أخطر من ذلك من إيقاع الفتنة بين فئات من المجتمع أو قطاعات منه مع ما يتخّفى خلف كلّ ذلك من أجندات سياسيّة وانتخابيّة.
العديد من الملاحظين يربطون بين الإشاعات المكثّفة وواقع التجاذب السياسي القائم اليوم في البلاد واستعدادات مختلف الأطراف للمواعيد السياسيّة والانتخابيّة القادمة، بمعنى أنّ «الإشاعة» تحوّلت إلى أجندة سياسيّة وأداة للفعل السياسي والحزبي.
على أنّ ذلك لا يحجب عن الأنظار أنّ العديد من الأحداث والتصريحات والملابسات توفّر أرضيّة خصبة لنموّ وازدهار «سوق أو حرب الإشاعات» بما يؤكّد وجود إشكال على مستوى عمليات التواصل والإعلام القائمة اليوم في البلاد بين مختلف الأطراف وربّما حصول ما يشبه القطيعة بين لاعبين سياسيين من سلطة ومعارضة وربّما مرات حتّى داخل الطيف أو التنظيم أو الحزب السياسي الواحد.
يعكس انتشار الإشاعة بحسب مختصين أزمة في الفعل السياسي التونسي لدى السلطة والمعارضة ويكشف كذلك عن انخفاض درجة ثقة المواطن التونسي في خطابات السياسيين وما تقدّمه كذلك وسائل الإعلام ، ذلك أنّ غياب المعلومة الدقيقة يكثّف من واقع الغموض السياسي والاجتماعي والاقتصادي ويحدث ضجّة في ذهن المتلقي الّذي بات مصدّقا ومقتنعا بأيّ إشاعة تمرّر عبر هذه الجهة السياسيّة أو تلك. على أنّ مآلات «حرب الإشاعات» الأخيرة والتي أوصلت الدولة إلى حالة الانهيار وأوقعت السلطة في مطبّ العجز وعدم القدرة على الفعل الميداني وتغيير معطيات الواقع تؤكّد أنّ التجاذب السياسي كان منبتا رئيسيا لكلّ تلك الإشاعات الّتي تمّ تضخيمها بشكل ممنهج ومدروس يعكس طبيعة التجاذب السياسي القائم اليوم في البلاد ، فهل تغادر الساحة الوطنية ميدان الإشاعة إلى فضاء تُشاع فيه الحقائق وتتوحد فيه الجهود من أجل خدمة المصلحة الوطنية العليا؟
عبد الله العبيدي : غاية الإشاعة التشويش ومشاغبة الحكومة
اعتبر الباحث عبد الله العبيدي أنّ الاشاعة تكون في ظل غياب مصادر الخبر اليقين، ففي ظل ذلك الغياب فإنّ المتلقي للخبر ينتج لوحده الأخبار حيث تتحول الأحلام والأماني إلى أخبار.
من ناحية ثانية يترجم انتشار الإشاعات عدم ثقة المواطن والمهتم بالشأن العام في المتحركين في الساحة السياسية الذين من المفروض أن يكونوا واضحين وصادقين وتعطل الريادة الفكرية وعدم أهلية النخب لقيادة المرحلة
وفي الكثير من الأحيان يُمكن للإشاعات أن تكون لها تداعيات على أرض الواقع وان تؤدي إلى صدامات وتوتر وتحرك الشارع تجاه مجرد إشاعات ، وشخصيا أعتقد أنّ الكثير من الأحداث الأخيرة كانت ناجمة عن ردّة فعل تجاه اشاعات تمّ تسريبها عبر المواقع الاجتماعيّة أو الفضاءات العامّة.
وفي نظري فإنّ الغاية من هذه الإشاعات هو التشويش ومشاغبة السياسيين الحاكمين حاليا، ويلاحظ في هذا الصدد أنّ الحكومة الحالية لم تبسط شبكتها الإعلامية والاتصاليّة بعد للتواصل مع المواطن ، كما أنّه من المفروض أن تحذف الحكومة بعض المصطلحات من قاموسها ، فمثلا كلمة «تطهير» تعني حل المشاكل وتنشيط الحياة فهي في صميم العمل الحكومي ولذلك لا يجب التركيز عليها بشكل موغل يدخل الاضطراب والتشويش على العاملين في الإدارة أو غيرها من القطاعات ، المفروض أن يكون خطاب السلطة خطاب استنهاض الهمم والتشجيع والحفز.
غازي الغرايري : «الاستقطاب الثنائي» عزز وجود الإشاعات
اعتبر الأستاذ غازي الغرايري أمين عام الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري أنّ ظاهرة الإشاعات ليست ظاهرة جديدة في المجتمع التونسي ولا حتى المجتمع السياسي وخاصة مع ممارسات النظام السابق الذي كان يصنع الإشاعة ويبثها في المجتمع ليعرف ردوده.
وأضاف الغرايري:» بعد الثورة تواصلت ظاهرة الإشاعة وهذا مرده انه ولو أن الكلمة تحررت فان الشكوك مازالت تحوم حول بعض مؤسسات الإعلام وهو ما يغذي عدم تصديقها، اليوم الإشاعات وسيلة لجلب الانتباه في الساحة السياسية والاستقطاب الثنائي يعرف اليوم أعلى درجاته وأصبحت الإشاعة وسيلة مناورة سياسية للفت انتباه جزء من الرأي العام لمسألة يتبين في ما بعد انها غير صحيحة لكن يكون الأثر قد حصل».
مفهوم الإشاعة وتداعياتها على المجتمع
شاع الخبر شيوعاً بمعنى إذاعته وافشاؤه، وللإشاعة تعريفات عديدة ولعل أشهرها تعريف ألبورت وبوستمان الذي يعرفها كالآتي: «كل قضية أو عبارة مقدمة للتصديق يتمّ تناقلها من شخص إلى شخص عادة بالكلمة المنطوقة».
ويعتبر متخصصون في علم الاجتماع أنّ الإشاعات من أخطر وأفتك أساليب الحرب النفسية لأنها تدنس بطريقة أشبه بالسحر وسط الجماهير، ولأنه من الصعب معرفة مصدرها ولأن ضحاياها يسمعونها من أصدقائهم مما يعطيها صورة الخبر الصادق بل إن ضحاياهم يكونون أحياناً هم مروجوها.
والإشاعة سلوك عدواني ضد المجتمع وتعبير عن بعض العقد النفسية المترسبة في العقل الباطن وهذا السلوك العدواني قد ينجم عنه أفعال مباشرة وقد يتحول إلى نوع من الشذوذ في القول والعمل ولعل أبرز أنواع الشائعات هي ما يتعلّق بأمن الناس لأنه يتركهم في دوامة القلق ويؤثر على مجرى حياتهم وخاصة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني.. وخاصة عندما يفتقد الناس إلى الإدراك والوعي وثوابت الاستقرار كالأمن والدين والقيم.. وتعتبر الإشاعة من أخطر الأسلحة المدمرة للمجتمعات أو الأشخاص وتعتبر الإشاعة عصب الحروب النفسية وسلاحها للنيل من الروح المعنوية للشعوب.
الهدف من الإشاعة دائماً هو عقل الإنسان وقلبه ونفسه وليس جسده أي أنها تتجه إلى معنوياته لا ممتلكاته حيث إن ميدانها هو الشخصية وتستهدف إشاعة الفكر والعقيدة والروح لتحطيم معنويات الأعداء سواء مدنيين أو عسكريين على السواء.