الظهور الإعلامي اللّافت لرموز السلطة القائمة في تونس خلال الأيام الأخيرة والحوارات التلفزيّة التي أوضحت عدّة نقاط تطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومة قد انتقلت إلى مجال ردّ الفعل وعكس الهجوم على المعارضة بعد فترة تلقّت فيها الانتقادات و«الضربات». ففي غضون أسبوع كان لرئيس الدولة المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة حمادي الجبالي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر ووزير الداخلية علي العريض حضور لافت سواء من خلال الحوارات التلفزية (الجبالي والمرزوقي وبن جعفر) أو الندوات الصحفيّة (العريّض) التي وضحت عدّة نقاط على بعض الحروف ووضعت أيضا نقاط استفهام حول الرسائل التي أراد رموز السلطة تبليغها إلى الشارع والرأي العام وإلى شركائهم وخصومهم السياسيين على حدّ سواء.
«تكتيك» حكومي
ما جاء في حديث المسؤولين الكبار في الدّولة فيه توضيح لبعض ممّا كان غامضا، مثل الموقف من التيار السلفي ومن بعض الممارسات التي تمسّ بهيبة الدولة من تعطيل لسير مؤسساتها وعنف بحق الأفراد والجماعات، والعلاقات مع اتحاد الشغل والمفاوضات الاجتماعية وتأكيد التزام الحكومة والمجلس التأسيسي بالمواعيد المحدّدة للفراغ من كتابة الدستور الجديد وتنظيم الانتخابات القادمة، وما إلى ذلك من مواضيع ورسائل تلقتها مختلف الأطراف السياسية الفاعلة على الساحة بانطباعات مختلفة تراوحت بين الترحيب والاطمئنان والنقد واتهام الحكومة بالمضي في نهج الغموض.
ومنذ مطلع مارس الماضي تحدّثت أطراف في الحكومة عن مسعى من المعارضة لإسقاط الحكومة، حيث فوجئت الساحة السياسية آنذاك بتصريحات أدلى بها لطفي زيتون، المستشار السياسي لرئيس الحكومة، حول وجود اتصالات مكثفة بين قيادات سياسية تونسية معارضة وجهات أجنبية تروم التخطيط لإسقاط الحكومة، وإجهاض عملها تمهيدا للانقلاب عليها والانقضاض على الحكم.
وقال زيتون حينها إن وجوها سياسية لم يسمها استقبلت مسؤولين أوروبيين وأمريكيين زاروا تونس وتفاوضت معهم حول منع كل أنواع الدعم عن حكومة الجبالي، وحجب القروض عنها، مرددين لدى أولئك المسؤولين الأجانب أن الحكومة المنتخبة في طريقها إلى الاندثار ولا يمكن المجازفة بتوقيع اتفاقيات من أي نوع معها.
ولم تلق تلك التصريحات قدرا كبيرا من التجاوب والتفاعل وشكّكت عدّة أطراف في مصداقيتها بما أنّ اطرافا حكومية قالت إنه لا علم لها بمؤامرة، وعدّها البعض «تكتيكا» من الحكومة لتوريط المعارضة وإظهارها بمظهر الطرف الذي يسعى إلى عرقلة عمل الحكومة وتعطيل مسيرة البلاد نحو النهوض دون تقديم بدائل لما تراه نقصا في برنامج الحكومة واستراتيجية عملها، بل حتّى توريطها في مخطّط «الثورة المضادّة».
ومنذ الحديث عن «المؤامرة» بدا أنّ الحكومة اكتفت بدور دفاعي أمام «هجمة» من المعارضة عنوانها عجز الحكومة عن إدارة شؤون البلاد في هذه المرحلة وعدم قدرتها على تلبية مطالب الشعب وتحقيق أهداف الثورة في وقت كانت الحكومة منكبّة على إعداد قانون المالية التكميلي واستكمال برنامجها دون اكتراث لما يُقال وربما دون وضع استراتيجية إعلامية للردّ على الخصوم وتوضيح مواقفها وبرامجها.
وقال عضو المجلس الوطني التأسيسي عن حركة النهضة وليد البناني إنّ الحكومة في حاجة إلى وضع خطة واستراتيجية إعلامية تعطي الاطمئنان للمواطنين، معتبرا أنّ الحكومة تأخرت في إبلاغ صوتها عبر وسائل الإعلام وكانت مقصّرة في هذا الجانب.
وأضاف البناني «كان من المفروض أن يكون للحكومة تواصل إعلامي مكثف في كل المستويات المقروءة والمسموعة والمرئية، لأنّ الجهد الذي كانت تقوم به خلال الأشهر الفارطة لم يكن ظاهرا للعيان وكان الناس في حيرة حيث كان الوزراء يعملون منذ السابعة صباحا ومنهم من يغادر مكتبه في ساعة متأخرة من الليل، وكان على الحكومة إيجاد آليات التواصل لكشف كل ذلك.»
واعتبر البناني أن ما تقوم به الحكومة اليوم هو تصحيح لموقف وليس مرتبطا بردّة فعل على المعارضة، التي تقوم بدورها وتستغلّ أي ضعف أو تردّد من الحكومة لتسجيل نقاط لفائدتها، وأنّ «على الحكومة أن تتدخّل حتى تعطي حقيقة تناول الملفات الكبرى ولتبدّد حيرة المواطن وتقضي على الإشاعة وبالتالي تفوّت الفرصة على المعارضة وعلى أي طرف آخر ليملأ الفراغ بما يراه هو».
وأشار النائب في التأسيسي إلى أنّ الفترة الأخيرة اتّسمت بانتشار الإشاعة سواء في المواقع الاجتماعية أو حتى في الصحافة واختلط الخبر بالإشاعة ومن واجب الحكومة على الشعب أن تتدخّل حتى تبيّن الحقيقة من الإشاعة سواء في التعيينات أو التغييرات وملفات الفساد والقضايا الكبرى للبلاد».
مرحلة جديدة
أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والرّاهن عبد اللطيف الحناشي اعتبر أنّ هذه العمليّة مركّبة وهي تعود إلى ثلاثة اعتبارات، فالحكومة لم تكن لديها سياسة إعلامية واضحة ولا تجربة كافية ولا برنامج لتقدّمه، كما أنّ الإعلام وفي جزء كبير منه كان متّجها اتجاها معيّنا ولم يكن لديه طابع التنوّع، أمّا المعارضة فكانت دائما في وضع «هجوم» ولم تكن تقدّم البدائل والمقترحات عموما، وهذه أمور مرتبطة ببعضها فالإعلام كان يلهث وراء الأطراف التي تقع في موقع الفعل وليس ردّ الفعل.
وقال الحناشي إنّه نتيجة الضغوط المتعدّدة على الحكومة ونقدها من أطراف عديدة وجدت نفسها أمام حتميّة الانتقال إلى وضعية أخرى ووضع خطّة جديدة منها تكثيف الزيارات الميدانية للوزراء إلى الجهات، خاصّة أنّ المصادقة على الميزانية التكميلية تأخّرت ولم يكن لدى الحكومة ما تقدّمه، وبالتالي واكب الإعلام هذا التطوّر بما أنه لم يكن قبل ذلك ما يغري الإعلام بمتابعة نشاط الحكومة.
وأضاف الأستاذ الحناشي أنّ «هذه مرحلة جديدة خاصة بعد التقارير الأممية حول الاقتصاد والوضع الاقتصادي بشكل عام ممّا دفع الحكومة إلى التحرّك وتبليغ صوتها»، مشيرا إلى أنّ اعتصام التلفزة كان من بين العوامل غير المباشرة في الدفع نحو هذا الاتجاه.