إذا زرت بلاد المشرق ستلاحظ في بعض طرقاتها السّريعة كثرة الشاحنات الضخمة من نوع «طامس» التي تنقل البضائع عبر الحدود. إنها تتجاوز سيّارتك بشخير وزئير ومنبّه مرعب يضطرّك إلى فسح الطّريق مخافة الاصطدام أو تلقّي سباب السائق، وعند رؤيتك للشّاحنة ستقرأ على مؤخّرتها عبارة: «وهذا طامس آخر»، ممّا يعني أنك بعد هذه الشّاحنة سترى أخريات ، ممّا يدلّ على انتشار هذا النّوع وحاجة التّجّار إليه.
وكنت رويت - منذ عام - في هذا الرّكن قصّة رجل من معارفي ناضل في صفوف التجمّع سنين طويلة . سألته مرّة وكانت الانتخابات البرلمانية على الأبواب: «أعجب كيف لم يرشّحوك لهذه الدّورة بعدما عرفوه من إخلاصك ، وأعادوا ترشيح صاحبك فلان للمرة الثالثة، وهو المشتهر بالتزلّف لكل من له فيه مطمع. هل نسيت تذمّر النّوّاب من مداخلاته التّافهة؟»، فأجابني: «لأنه «جلغه» لا غنى عنها في المجلس . حيوان مدرّب يدفعه المتنفّذون في الحكومة نحو منافسيهم ومعارضيهم لإرباكهم أو إسكاتهم. فينبري لهم صاحبنا بالعبارات المفخّمة والشقشقة اللّفظيّة تتدافع كالرّشّاش بصوت عال، يثير الرّعب الانفعالي الذي يفحم المستمع ، ويدفعه إلى التّصديق دون اقتناع».
ولو استعرضنا ما كان يدور في مجلسي النّوّاب و المستشارين لاستعادت ذاكرتنا كم من خطيب هدر في أرجائهما كفحل الجمال والزّبد يتطاير من فمه، مطلقا ألفاظا ركّبها على معان مغايرة للموقف، وكم آخر غيره متّعنا بسماع «جلغته» تتكلّم عربية أنيقة ذات تواشيح وتخييلات لغويّة فيها ذوق وحرارة إلقاء محاولا الاستحواذ على العقول بأقاويل لابرهانيّة، اعتمادها كلّه على الإنشاء البلاغيّ.
2
وبعد انتخاب المجلس التّأسيسي انطلقت «جلغات» اليمين واليسار، ممن لازموا الصّمت طويلا، ليقولوا ما يشاؤون في ظلّ الدّيموقراطية الوليدة . فهذا أحدهم «يتلغمج ويتلغبب» بلهجة جنوبيّة مهدّدا بالمقاطعة إذا لم تستجب مطالبه التي طفق يمليها بصوت عال وبحركات مسرحية فيها كل آليات العنف الرّمزي. وهذه أخرى بلباس التعفّف والتّقوى تتصنّع عبارات طهوريّة مكارميّة لإطلاق الأكاذيب والاستعداءات غير البريئة على زملائها متجاهلة التزاماتها الأخلاقية. وهذا الآخر من مستشاري الحكومة أظهره التنقّل المستمرّ بين محطات الإذاعة وشاشات التلفزيون، كالمكلّف من طرف «إخوانه» بدحض آثام جرّمهم بها المجتمع، واستخلاص أموال لهم عليه.
فحينا يستثير العواطف بهدوء مصطنع وعبارات تستميل المستمع إلى منطقة لاعقلية من التصديق الساذج. وحينا يلبس الباطل رداء الحقّ بحجاج كاذب ولهجة صداميّة سلاحها سحنة مصارع يابانيّ وعينا حيوان شرس قتاليّ الطّباع. وهكذا تستمرّ تقاليدنا و يستولد مجتمع ما بعد الثّورة «جلغات» للمرحلة الجديدة يستعين بها على أموره، ويقول لنا «وهذه جلغة أخرى» على طريقة «طامس» صانع الشّاحنات المؤمن بأن لا مناص لك من شاحنته لنجاح أعمالك.
3
أحسست عند كتابتي لمقالي الأوّل وازداد إحساسي بذلك اليوم وكأنّ لكناية «جلغه» مدلولا بليغا في لهجتنا الدّارجة لا تعوّضه مفردة أخرى . وبفضول بحثت عمّا قد يربطها بالعربية الفصحى، فوجدت في القاموس المحيط (ج.3 ص. 108): المجالغة وتعني الضّحك بالأسنان (وفي الحكومة تجسيم حيّ لهذا)، وتجالغا أي تكافحا بالسيف. وبهذا يتقارب الشرح الأول مع كلمة «جلغه» في معنى انفتاح الفم أفقيّا حتى تظهر كل الأسنان، إما للضّحك (يقال ضحك حتى بدت نواجذه)، أو لتضخيم الكلام وإعلاء الصوت. وقد اشتهر أهل الجريد بإتيان هذه الحركة عند إطلاق النّكت وفاحش الكلام. ومن أقوالهم للزّجر: «ضمّ جلغتك»، وللتّهديد: «ع نكسّرلك جلغتك». وربّما يكون لمعنى العنف علاقة بالمكافحة بالسّيف، وهو الشرح الثاني في القاموس.
وقد نبّهت قرّائي في المقال القديم إلى كم «جلغة» ستنفتح عليهم بعد الانتخابات ، تتلاعب بعقولهم ، تداور وتنافق، فتظهر شيئا وتخفي أشياء. ها هي «الجلغات» تصول وتجول اليوم، فهل انتبهو لها؟ لست أدري.